آخر تحديث: 30 / 7 / 2025م - 3:00 ص

دفءُ الأخوّة وحدودُ المكان

عماد آل عبيدان

لم تكن تلك الوصايا العابرة التي تناقلها الناس من أفواه الجدّات، ثم تبخّرت في زوايا الزمن، إلا كنوزًا صغيرة تُصاغ بلهجة بسيطة، وتُحفظ في قلوب الحكماء لا دفاتر المثقفين.

"نام في بيت أختك ولا تاكل عندها…

وكل في بيت أخوك ولا تنام عنده…"

وصيّة شعبية تبدو ساخرة في ظاهرها، لكنها في عمقها رسالة دقيقة تُعبّر عن فهمٍ بالغٍ لطبيعة العلاقات وحدودها، وتكشف بطريقة فكاهية عن تعقيدات إنسانية لا تُقال، لكنها تُحسّ وتُثقل الأرواح إذا لم تُدرَك.

في بيتِ الأخ، اللقمة لا تُثقل المائدة، لكنها قد تُوقِظ الحسابات النائمة في زوايا العلاقة.

تأكل عنده دون أن يُبدي ضيقًا، لكن المواقف القديمة تتكئ على الملعقة دون استئذان:

من يُنفق؟

من يُبادر؟

من يتذكّر، ومن يتناسى؟

فالطعام، وإن بدا سخيًّا، قد يكون مشحونًا بصمتٍ ثقيل، لأن الأخ لا ينسى تفاصيل الأمس بسهولة…

وفي كل لقمة، قد يُستَحضر رصيدك في دفترٍ لا يُكتَب، لكنه حاضر عند كل مناسبة.

أما في بيت الأخت، فالمعادلة مقلوبة…

تنام في بيتها، فتُوسّع لك صدرها قبل المكان، وتُعدّ وسادتك كما لو كنت ابنها، لا زائرًا.

هي لا تُحرجها الإقامة، بل تُسعدها، وتخفي تعبها كي لا تراه.

لكن اللقمة… تلك هي ما يُثقلها، لا بيدها، بل بما خلف يدها.

ففي بيت الزوج، المطبخ ليس ساحة قرارٍ كامل، والمصروف مقسوم، والتفاصيل الدقيقة تُراقب دون أن تُقال.

تُقدّم ما عندها، لكن في داخلها حسابات الحياء، وحذر الأنثى التي لا تريد أن تُشعر زوجها بثقلٍ غير مقصود، ولا أن تُظهر حاجتها لصرفٍ لم يُحسب.

فالمحبة عندها واسعة… لكن الطبق صغير.

نحن في زمنٍ أصبحت العلاقات فيه تحتاج إلى صياغة أكثر رُقيًّا.

لا لأنّ الحبّ نقص، بل لأنّ الحياء أصبح عملةً نادرة، والتقدير صار يُفهم ضمن شروط.

كبرنا… ولم نعد نَزُور كما كنّا في صغرنا.

صرنا نحمل معنا ساعاتنا، ومشاغلنا، وهدايانا أحيانًا، لكننا ننسى أن أهمّ ما نحمله هو وزننا الشعوري على قلوبهم.

وهنا جوهر الوصية:

كُن خفيفًا كالعطر… لا ثقيلاً كطبق اليوم التالي، ولا مُقيماً كأثاثٍ لا يُنقَل.

قصةٌ واقعية سمعْتها من أحدهم…

زار أخاه فجأة، وبقي ليومين كاملين.

في اليوم الثالث، قال ابن أخيه الصغير ببراءة:

”بابا يقول إنك ماثقلت، بس طولّت!“

ضحك الزائر مجاملةً… لكنه غادر صباحًا دون إفطار، وغابت تلك الزيارة من تقويم العلاقات بعد تلك الجملة العابرة.

وفي قصة أخرى، زارت أختٌ أخاها، وأحضرت معها وجبة تكفي عشرة، ثم غادرت قبل المغرب، مخلفةً في البيت ضوءًا لطيفًا وابتسامة امتدت لأيام.

هكذا تكون العلاقات: لا تُقاس بالمدة، بل بالأثر.

ولا تُوزَن بالكيلو، بل بالشعور.

وصيّة الأوّلين لم تكن عن الطعام والنوم…

بل عن الاتزان في المودّة، وعن حدودِ ”الحبّ الذكي“، ذلك الذي يعرف متى يقترب… ومتى يكتفي بالسلام.

‏فلا تُثقل العلاقة بلقمة تُحسب، ولا تُربك الودّ بنومةٍ قد تفتح أبواب الحرج.

وازن بين دفء الأخوّة… وحدود المكان.

واجعل زيارتك مثل نسيم المساء: تنعش الأرواح، ولا تُزاحم الجدران.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 7
1
سليمان الصايغ
20 / 7 / 2025م - 3:41 م
المقال عميق وفيه لمسة أدبية راقية. أسلوبك يذكرني بكتابات إبراهيم الكوني لكن بروح محلية.. استمر.
2
جعفر آل خميس
20 / 7 / 2025م - 5:26 م
الكاتب أنيق في لغته ويكتب بمشرط الجراح. صادق جدا في أن “الحب الذكي” هو ما نحتاجه وفعلا صار بعض الزيارات ثقيلة حتى لو نحب أصحابها.
3
أمل عبد المحسن
[ الحلة ]: 20 / 7 / 2025م - 8:38 م
في زمن تحولت فيه العلاقات لصور “ستوري” وهدايا مكلفة الكاتب يذكرنا إن العطر الخفيف أفضل من العطر الغالي اللي يصدع! نص دافئ بمعنى الكلمة.
4
سلمان منصور العنكي
[ محافظة القطيف/ القديح ]: 25 / 7 / 2025م - 9:22 ص
المقال ذهبي المقاصد ما فيه واضح المعاني امكن تطبيقه في الماضي ولكن اصعبنا التزين به في الحاضر لاننا بمفعومنا الخاطيء وقصر بعدنا اعرضنا عن توجيهات المربين بالاهداف الى اختيار ما ننسج بخيوط جمعناها اكثرها بالية ثم لبسنا ما خطناه فما ستر عن شمس و لاحمى من برد ... شكراً ابا كميل
5
عماد آل عبيدان
25 / 7 / 2025م - 1:00 م
أ.سليمان الصايغ
سرّني عبورك النبيل، وأبهجني كثيرًا وصفك الذي يحمّلني مسؤولية الجَمال.
تشبيهك بكتابات الكوني فَضْل لا أستحقه، لكنّي أعتزّ بأن يكون لحروفي هذا الانطباع في قلب قارئٍ مثلك.
دمت قارئًا يُضيء المعنى… ويُنعش النصّ بروحه
6
عماد آل عبيدان
25 / 7 / 2025م - 1:01 م
أ. جعفر آل خميس
مرورك يشرّفني، وتشخيصك يلامس لبّ المقال.
كثيرون يملكون المحبة، لكن قليلون يُتقنون فنّها دون أن يُثقلوا بها على من يحبّون…
هو كما قلتَ: الحبّ الذكي صار ضرورة، لا ترفًا.
شكرًا على وصفك الذي يشبه “مشرط الجراح” في دقّته.
7
عماد آل عبيدان
25 / 7 / 2025م - 1:02 م
أ. أمل عبد المحسن
يا لروعة تشبيهك…
فعلاً، بعض العلاقات صارت مثل “عطر غالٍ” برّاق لكنه خانق، بينما الدفء الحقيقي هو في “رائحة خفيفة” لا تُنسى ولا تُرهق.
أسعدني مرورك الدافئ، وقراءتك التي التقطت جوهر النصّ بلمسة أنيقة كالتي جاءت منكِ.