البصيرة... تصحيح النظر الفكري «1»
”اختلط الحابل بالنابل“، حيث إن الأمور في بعض الأحداث يُهان فيها الجواد الكريم ويُرفع فيها شأن المجرم الوضيع والتافه المتملق. فقط، وأصحاب البصيرة هم من ينجو من العبث بالعقول، ومن تقلبات القلوب، ومن مساومة المواقف حتى مع تماطر الأحداث الساخنة.
الكثير ممن ابتلي باختلال البصر يبذل المال الكثير ويتنقل بين مستشفيات أشهر البلدان ليُصحح بصره ويُبقي نور رؤيته كي يستمتع بحياته. والواقع أن البصيرة تتجاوز في الأهمية البصر، إلا أن البعض يهمل العناية ببصيرته ويخسر دنياه وآخرته. وعليه، يجب الالتفات إلى حق حماية الإنسان من عمى البصيرة وحلكة ظلام المسير.
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب - 23]. لكل رجل شريف صاحب خصال شريفة ومواقف صادقة، وكلمات حق واعية، نرفع القبعة اعتزازًا بهم، ونقتدي. إلا أن هناك رجالًا خانوا الله وخانوا العهود، وعليه، أحببت أن أشارك القراء الأكارم بمجموعة من الخلجات لعلها تفيد من أراد الاستفادة في زيادة البصيرة وتجنب الأشرار.
الدين
1 - الخطيب أو الداعية أو إمام الجامع ليس هو الدين. فقد يصيب المتحدث وإن كان لابس الزي الديني، وقد يخطئ في السلوك أو طرح فكرة ما أو توظيف آية ما. فإذا كان الخطأ صدر منه جهلًا، فالتدارس معه وتنبيهه أمانة، وجس نبض تفاعله وقبوله للملاحظات وسرعة تصحيح معلوماته معيار لصدقه وأمانته وتواضعه؛ وإن كان الزلل وفاحش الكلام صادرًا منه عمدًا، وبدافع التضليل وخلط الأمور وإثارة النعرات الطائفية، فتجنبه أولى ولا يستمع له، والتحذير منه وتحصين العقل من أكاذيبه، ومن يعز على من لاحظ ذلك أولى لحجب انتشار أفكاره الهدامة. يجب تنقيح ما نسمع كما نُنقح ما نأكل ونشرب: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء - 36].
2 - لا تدافع عن الخطأ الصادر من عزيز عليك؛ بل المعزة الحقيقية تتطلب حسن النصيحة له بطريقة لبقة بينك وبينه. فلا يجب لأحد من الناس أن تعميه القداسة ووجاهة المنصب والولاء الأعمى عن روح النصح والمراجعة والنقد البناء لمن أحبه أو والاه.
3 - الأزياء للملابس والأشكال للوجوه حتمًا تعطي انطباعًا لدى كل إنسان. ولذا تنطلي على عدد من السذج خدعة الزي والشكل لينجذب نحو شخص ما. وبناءً على انعدام بصيرة الشخص الساذج وانعدام عضلة التمحيص لديه، قد يقع في شراك ما يدعيه ذاك المتلون والمتاجر بالعناوين الفضفاضة والمدغدغة لمشاعر المستمع، سواء كان مرتديًا بنطالًا وكرافته، أو دشداشة وشماغ. فأصحاب البصيرة يميزون بين الرجل الصالح والرجل الطالح؛ ويميزون بين المرأة العاهرة وإن كانت منقبة، وبين المرأة المنضبطة سلوكيًا وإن كانت غير محجبة. وصاحب البصيرة يميز بين دعاة الفتنة وإن تلبسوا لباس أهل التقوى وأطلقوا لحاهم أو شذبوها، وبين أهل الدعوة الصادقة إلى الله جل جلاله دون رياء أو محاباة. فكن ذا بصيرة في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، ولا تكن فريسة؛ فوعيك بصيرتك.
العمل والدراسة
2 - الدكتور المحاضر/ الإداري في أي مؤسسة ليس هو المؤسسة، بل هو موظف وقد يستبد برأيه ويشطح بفعله. وقد يستحسن ذلك الإداري المستبد فعلًا أو قولًا ما، بينما الواقع هو أن توجهات المؤسسة التعليمية والإدارية مختلفة تمامًا. فلا حيف من التدارس لمعرفة المنطق والمنطلق قبل التصادم والجفاء. فأهل العقل يناقشون، وأهل الحماقة يتصارعون. فكن صاحب عقل وبصيرة في معالجة أمورك حيثما كنت.
طرح العلم في الإعلام
3 - انتشر عدد من مشاهير اليوتيوب ممن يجيدون فن الإلقاء، لا سيما في مواضيع العلوم الطبيعية، بحيث إن طرحهم يتم بشكل مبسط وفكاهي ومثري ومشوق. وكثير من الناس يشاهدون حلقات لبعض اليوتيوبر مع أفراد أسرهم وأولادهم دون فلترة الأفكار المعروضة والمضامين المروجة في ثنايا العرض. فقد يمرر بعض اليوتيوبر كلمات مخجلة تندرج تحت عنوان التحرش اللفظي، ويمرر يوتيوبر آخر فكرة ”أن أصل الإنسان هو حيوان“، وآخرون يروجون لفكرة الشذوذ على أنه تركيبة جينية، والإلحاد على أنه حرية معتقد!! وكل ذلك هو سم بالعسل يدس للمشاهد. وجود بصيرة باصرة وقلب مقدام وعقل ناضج لدى المشاهد يفكك هكذا أدوات قاتلة استباقيًا، ويحجب السيئ منها، ويحفظ أبناء الجيل الصاعد من خطرها أو الانخراط فيها.
4 - يدعي كثير من المتحدثين في مواقع تطبيقات الإنترنت المختلفة بأن مصادر كلامهم متروكة في البايو أسفل المقطع. وإذا تصفحت البايو المشار إليه تجد كومة من الروابط دون استدلال صادق لدعم ادعاء المتحدث في ذات الفكرة التي تحدث عنها. الشخص البسيط من الناس يتوقف عن البحث ويقتنع بالفكرة ويتبنى ادعاءات المتحدث بما قاله كأنه نبي مرسل لكثرة الروابط، حتى لو كان مغالطًا لحقيقة صدع بها كتاب الله. ولكن في الواقع هذا أسلوب فيه دهاء وخداع وتضليل من بعض مشاهير وتجار الإعلام. فكن ذا بصيرة، وتمحص، وتحقق، ودقق.
5 - عدد من قنوات الإعلام الرقمي وغير الرقمي المتخصصة في العلوم الطبيعية تروج فقط وفقط للعلوم المادية المبنية على البصر والحس والنظريات العلمية المادية، وتلغي أو تحجب الإيمان بالغيب وما وراء الطبيعة. قد يقول قائل: وما الضير في ذلك؟ ونعلق: لا ضير إذا كان الكلام عن فيزياء وكيمياء المادة؛ ولكن أن يتم دس السم بالعسل وتمرير نظريات الإلحاد ونظريات تمييع الهوية الجنسية باسم العلم أمر غير مقبول. وعليه، لا بد من التمحيص لما نشاهد وما نسمع، سواء تم ترويجه تحت عناوين الطبيعة أو العلم أو الفن أو الحوار. فكن ذا بصيرة، وتمحص، وكن لذريتك موجهًا لا منفرجًا.
الفن
1 - المسابقات والمنافسات في الماضي كانت في مضامير الرماية والسباحة وشد الحبل وركوب الخيل وحمل الأثقال وصعود قمم الجبال ورمي الرمح والجري. حديثًا، رأينا أن عدة مسابقات تلفزيونية تتمحور حول استقطاب المواهب والمهارات الجسدية، فيتم فيها استعراض رخيص للأجساد المتمايلة والراقصة بملابس بعضها خادشة للحياء، ويطلبون من الحضور التصفيق والمتابعة!
2 - في السابق، كانت تُعطى الدمية على شكل طفل رضيع للبنات بهدف غرس مفهوم الأمومة والعناية بالرضيع وتنمية روح المسؤولية والترتيب والنظافة. حاليًا، نرى دمية بشكل فتاة جذابة وجميلة وممشوقة القوام وفاتنة المعالم وذات عيون زرقاء، وتُبرز إعلاميًا، وتُصنع لها أفلام كرتونية للترويج لشخصيتها. وتمرر عدة رسائل وأفكار للأطفال والمراهقين دون أدنى محاسبة أو رقابة من خلال شخصية تلك الدمية. ليس فقط الدعوة إلى التحول من جنس لآخر، وليس فقط ترويج فنون الإغواء والإغراء وعالم الشهوات، وليس فقط الدعوة لكره الرجال، وليس فقط تسويق فنون المواعدة وأساليب التحرش؛ بل إن تلك الدمية في أفلامها تدعو لكل ذلك كله وأكثر. ويقال عنه بكل أسف: دمية تغذي براءة الأطفال، وليس إثارة غرائز وترويج ثقافة انحراف. بصيرتك هي وعيك وصمام أمان لك ولأبنائك، فحافظ على نفسك وأهلك.
الإنسانية
بعض من الناس بسبب تكاثر الضغوطات عليه فإنه يلجأ إلى أي شخص أو برنامج تلفزيوني لمحطة فضائية للتحدث والتنفيس عما في صدره. وهنا تسمع وترى العجب العجاب:
1 - انطلقت عدة برامج تلفزيونية في عدة قنوات فضائية بهدف جذب أكبر قدر من المشاهدين والمتابعين لحصد أرباح مالية أكبر. فأصبحت مواضيع الدياثة والفجور وزنى المحارم والإغواء والإجهاض والهروب من بيوت العوائل تُعرض بأساليب تسويقية مشرقة، وسرديات فاتنة ومثيرة، فينساق المشاهد ويتابع وينشد للمتابعة ويتحول مع مرور الوقت للانحياز مع أحد أطراف القصة!
2 - يكاتب أحدهم مواقع مختلفة في النت عن مشاكله العاطفية والنفسية والأسرية، ظنًا منه أن من هو خلف الشاشة جدير بالثقة. ليكتشف الضحية لاحقًا، والأغلب لا يكتشف ذلك، بأن معلوماته وقصته كلها معروضة للبيع في دهاليز مواقع الإنترنت الظلماء. أو يكتشف بأنه وقع ضحية لعملية ابتزاز من قبل محتال.
3 - يعيد بعضهم إرسال رسائل عناوينها جيدة وجذابة لروابط بها مواقع يوتيوب بعنوان: ”يوتيوب للعوائل“. ليكتشف المتفحص أن اليوتيوب المتضمن يوميات عوائل مختلفة مشحون بأفكار محطمة للبناء الأسري. فالعنوان مناقض للمحتوى!!
كل تلك الأمثلة تتطلب حضورًا ذهنيًا، وعقلًا مستنيرًا، وإجراءً فعالًا لطمس تسرب القاذورات السلوكية تحت ستار الإنسانية.
الإعلام والانقلاب الأخلاقي
أضحى واضحًا وضوح الشمس، وبعد مخاض تجربة تحويل الصحفي الأمريكي مهنته من قراءة الأخبار إلى برنامج ”جيري“ ونجاحه المالي بشكل لافت، تسارعت عدة قنوات وعدد ليس بالبسيط من الفنانات لتبني الفكرة نفسها، وهي عرض الرذيلة الأخلاقية تحت غطاء برامج تلفزيونية في محطات فضائية، وحتى بودكاستات، وبأشكال وقوالب خارج نطاق التفكير والمألوف والأعراف والذوق والأدب لكسب أكبر عدد من المشاهدين. صاحب البصيرة يحاسب نفسه قبل أن يُحاسب.
الجمال
هوس استحصال الجمال وصل ذروته بمحاولة بعضهن نحت أجسادهن، وتقليص حجم أنوفهن، وتضخيم أردافهن، وتكبير أثدائهن، وتقليص قطر خصرهن، وتركيب عدسات بلون معين، وتلوين شعورهن بلون معين؛ تشبهًا منهم بشكل وقوام دمية مشهورة. هذا أمر شيء ملفت للنظر، واقتصاد استهلاكي مهلك!! فتسمع بأن صاحبة اتباع الموضة دائمًا بائسة من حياتها، ومكتئبة من معيشتها، ونافمة من وضعها، إلا ما رحم ربي. أصحاب البصيرة هم أهل القناعة، فكن/كوني واحدًا منهم، وعِش قرير العيش بما أنعم الله عليك من نعم، وحث أهلك على ذلك.
العلاقات البشرية
الجملة اللاتينية التالية شدت انتباهي، وأخذت بعض الوقت للتأمل:
Make yourself valuable not available
في بعض المجتمعات وبعض الأسر، توفرك وتوفر خدماتك وتطوعك بشكل دائم لهم لا يعني لهم سوى إحراز توافر شخص يقوم بتلك الخدمات. ولكن التوازن منك في تقديم الأولويات والعناية بصحتك وراحتك النفسية قد يجعلك تُفرمل وتُعيد خياراتك في مواقع توافرك وجدول تقديم خدماتك وتطوعك. وقيل في عالم الاقتصاد: ”إن الندرة هي من ترفع القيمة“. نطمح أن نرى اكتساح فضيلة: تبادل الإحسان بالإحسان والمعروف بالمعروف.
الأفكار يعبر عنها تارة بالكلام وتارة بالكتابة وتارة بالمقاطع التصويرية، وحينذاك يعتمد نجاح إيصال مضمون الرسالة على المرسل والمستقبل ووسيلة التواصل. فلك أن تتخيل كم فكرة أو ممارسة أو تشريع يُنسب إلى دين سماوي/مدرسة فكرية ما/بلاد، وكم ينجح أتباع ذلك الدين/المدرسة الفكرية/البلاد في تطبيقها بحذافيرها، وتنقيتها من الخزعبلات والانحرافات، وكم شخص نجح أو أخفق في ذلك. فلنكن ذوي وعي وذوي بصيرة لنرى بصورة أوضح، وننجو من حفر الطريق.