آخر تحديث: 27 / 7 / 2025م - 3:34 م

الفرح المقيد..  كيف كبلنا الزواج بالديون

سامي آل مرزوق *

لم يكن الزواج يومًا سباقًا نحو الفخامة، ولا مناسبة تُقاس بما يُصرف فيها من أموال، بل كان مشروعًا إنسانيًا يفتح أبواب الاستقرار والمودة، ويشكّل نواة لبناء أسرة ومجتمع متماسك. لكن في زمننا حيث غلبت المظاهر على الجوهر، وأصبحت المناسبات استعراضًا اجتماعيًا لا يخلو من المبالغة، صار من المألوف أن يأخذ الشاب قرضًا شخصيًا يمتد خمس سنوات من أجل إقامة حفل لا تتجاوز مدته ثلاث ساعات، وكأن السعادة تُشترى بفاتورة تُدفع على أقساط. إننا اليوم نقف على مفترق

طرق، إما أن نُعيد الاعتبار لجوهر الزواج ومقاصده، أو نستمر في طريق لا يُنتج إلا عزوفًا، وديونًا، وخيبات متراكمة.

تأمل حال شابٍ في مقتبل العمر بالكاد يجمع قوت يومه، يُطالَب بمهرٍ كبير، وقاعة فاخرة، وشبكة من الذهب من عيار كذا، وسكن مستقل، وتأثيث متكامل، وسفر بعد الزواج، وكأن الحياة تبدأ باستعراض وليس ببناء. فكم من شبانٍ أرهقوا ماديًا من أجل تلبية المطلوب اجتماعيًا، لا الشرعي ولا المعقول؟ وكم من فتاة تأخرت عن الزواج، لا لنقص فيها، بل لأن المعايير الاجتماعية جعلت من الارتباط مشروعًا استثماريًا؟ لقد تحولت ليلة الزواج من لحظة بهجة إلى عبء نفسي ومادي، تُطفأ سكينته ضغوط الاستعداد، وتحاصره بعدها أقساط طويلة لا تنتهي.

لكن هذا لم يكن حالنا دائمًا، في منطقتنا بشكل عام، وفي سيهات المدينة الطيبة بشكلٍ خاص، سيهات التي عُرفت بتماسك أهلها ونبضهم المجتمعي، كانت الأعراس الجماعية فيها مشهدًا بهيًا من الفرح الحقيقي، كان الشبان يتسابقون في الإعداد والتنظيم، والتجار وكبار رجالات سيهات والمنطقة يفتحون جيوبهم دعمًا، ناهيك عن الدعم من الجمعيات واللجان التي تساهم بشكل فاعل في نجاح هذه الفعالية السعيدة، حيث العرسان يدخلون عش الزوجية بلا هم الدين ولا سباق المفاخرة. كانت المناسبة فرحًا جماعيًا لا مهرجانًا فرديًا مكلفًا، وكانت القلوب تحتفل قبل القاعات، والمحبة تسبق التصوير والديكورات.

كانت سيهات في ذلك الزمن نموذجًا ناصعًا لمجتمع يؤمن أن الفرح لا يُقاس بعدد الأطباق، ولا بحجم القاعة، بل بما يُزرع في القلوب من طمأنينة وشعور بالاحتواء. الأعراس الجماعية اختزلت التكاليف، ورفعت الحرج، وفتحت الباب أمام شبان وفتيات للارتباط دون أن يُقايضوا حياتهم بالديون. واليوم، بعد أن توقفت تلك المبادرة العظيمة، خفتت الروح الجميلة، وسادت مكانها ثقافة ”كلٌّ يتدبّر أمره“، مهما كلف الثمن. والنتيجة؟ شبان يُهاجر حلم الزواج، وفتيات يطِلن الانتظار، ومجتمع يتأرجح بين العزوف والتكليف.

أمثلة الواقع موجعة، أحدهم باع سيارته وأخذ قرضًا كبيرًا ليُقيم زفافًا يُرضي أقاربه، لا نفسه، وما إن انقضت ساعات الحفل حتى بدأ العد التنازلي لسد الديون التي أثقلت زواجه من يومه الأول. آخر قرر إلغاء فكرة الزواج مؤقتًا، وقد يكون دائمًا، لأن ما يُطلب منه لا يُطاق. أما الفتيات، فكثيرات منهن يرددن… العريس موجود، لكن الظروف لا تساعد، والظروف هنا ليست سوى إسرافنا في العادات التي نُلبسها ثوب العُرف، بينما حقيقتها قد تكون ظلمًا مقنعًا.

ألسنا بحاجة لإعادة التفكير؟ أليس من الأولى أن نُحيي ما اندثر من أعراس جماعية، أو نبتكر صورًا جديدة من التعاون والتكافل تُعيد إلى الزواج روحه؟ لماذا نربط السعادة بما يُنفق؟ ومن الذي قرر أن الفرح لا يكون إلا في قاعة فاخرة ووليمة باهظة؟ ففي الحديث الشريف: ”أعظمُ النكاحِ بركةً، أيسره مؤونةً“. لكن واقعنا يُخالف هذا التوجيه النبوي في كل تفصيلة.

الزواج ليس مسرحًا لعرض العضلات المالية، بل رحلة تبدأ بخطوة عقل وقلب وتعاون. علينا أن نتواضع في طلباتنا، ونعيد للمجتمع روحه الجماعية، ونكسر حاجز التوقعات المرتفعة التي لا تجلب إلا الهم. فهل نملك الشجاعة لنعيد الأعراس الجماعية بروحها الجميلة؟ وهل يمكن أن تصبح سيهات مرة أخرى كفّة جميلة تميل لصالح البساطة والتكافل؟ أم إننا نُفضل أن نبكي على الأطلال، بينما يسير قطار العزوف والعنوسة بسرعة نحو مستقبل مُجهد؟ الجواب عند كل منا، فلنُجِد الاختيار قبل أن نخسر أكثر.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
أمينة علي
[ سنابس ]: 19 / 7 / 2025م - 3:15 م
صرنا نعيش في مجتمع ما يرحم الشاب يطلبون منه مهر فوق طاقته وتكاليف ما لها معنى. هالمظاهر بس تخلي الواحد يتمنى العزوبية على الدخول في متاهة الديون.
2
زهراء عبد الجبار
19 / 7 / 2025م - 6:24 م
طرح موفق لكني أرى أن المشكلة أعمق من مجرد توقف الأعراس الجماعية. حتى لو عادت راح تظل ثقافة المفاخرة مسيطرة. نحتاج ثورة وعي مو بس فعالية موسمية. التغيير يبدأ من تربية البيوت مش من التنظيم.
3
حسين كاظم
19 / 7 / 2025م - 7:04 م
كلام الكاتب واقعي جدا خصوصا لما ذكر إن بعض الشباب يضطر يبيع سيارته عشان حفلة ساعات! هاذي مهزلة مو فرحة. أنا شخصيا أعرف اثنين تأخر زواجهم بسبب متطلبات مبالغ فيها ولا أحد يرضى يتنازل.
4
صفية حسن
19 / 7 / 2025م - 8:58 م
الله يعطي الكاتب العافية عبر عن لسان حال كثير من العوائل. بس بعد على البنات إنهم يراجعون نظرتهم لأن البعض مو بس الأهل حتى العروس تطلب فوق المعقول