النحلة تستحق أكثر
النحلة هي أحد أصدق الكائنات التي تواصل أداء رسالتها في صمت. لا تنتظر شكرًا، ولا تعرف كسلاً، بل تمضي كل يوم لتجمع الرحيق وتمنحه لنا عسلًا. لكن هذه الكائنات الصغيرة باتت اليوم تحت تهديد حقيقي، يتمثل في البيئة القاسية المحيطة، وعدم الدراية بما يحتاجه هذا الكائن الصغير من مقومات الحياة ليتطور وينمو ويعطي دون حدود.
إن أول ما يستحق الحماية ليس المنتج، بل الكائن الذي يصنعه. فكل خلية نحل هي في ذاتها حياة نابضة، لا يمكن اختزالها في إطار إنتاجي فقط. النحلة كائن حي، حساس، يتأثر بأقل تغير في المناخ، أو الماء، أو الزهرة، أو حتى مزاج النحال. وعليه، فإن حمايتها واجبة قبل انتظار إنتاجها. الوعي يبدأ حين ندرك أن العسل ليس منحة من الطبيعة، بل ثمرة نظام بالغ التعقيد، يحتاج إلى رعاية وصبر.
في منطقتنا الشرقية، حيث تمتزج الحرارة بالرطوبة، والغبار بالملوحة، يجد النحل نفسه في معركة مفتوحة مع بيئة لا ترحمه. العواصف الترابية المتكررة، ودرجات الحرارة الشديدة، وقلة المراعي الطبيعية، كلها تجعل من تربية النحل مهمة أكثر تعقيدًا مما تبدو. المطلوب ليس فقط التكيف مع الظروف، بل تغييرها عبر التخطيط البيئي المستدام، والتوسع في التشجير، وإنشاء حواجز طبيعية، وإعادة النظر في مواقع المناحل التقليدية.
كرامة النحلة لا تصان فقط بتغطية خلاياها عند هبوب العواصف، بل بتوفير بيئة متكاملة تحاكي احتياجاتها وتدعم استمراريتها. وفي بيئتنا الصحراوية الساحلية، أصبح من الضروري الانتقال من الحلول الموضعية إلى مشاريع بيئية واعية، كتوسعة غابات المانغروف على السواحل، لتعمل كمصدّات طبيعية ومواطن آمنه للنحل. إنشاء حدائق داعمة تُزرع باللافندر، وفرشاة الزجاج، والنباتات البرية المحلية. إقامة محميات طبيعية وفنادق مريحة - هي عبارة عن هياكل خشبية مصممة لتوفير مأوى للنحل البري، لضمان التنوع البيولوجي، وتوفير مصادر مياه نظيفة وآمنة، بطريقة تراعي سلامة النحل واحتياجاته اليومية.
البلديات، والمدارس، والجامعات، والمؤسسات والشركات الأهلية، والمزارع، كلّها أطراف قادرة على أن تُحدث فرقًا حقيقيًا. البلديات يمكنها تحويل المدن إلى مرافئ خضراء ترحب بالنحل وتشعره بالأمان. المدارس والجامعات تستطيع أن تزرع في الجيل الجديد وعيًا بيئيًا حيًا، عبر المناهج والمشاريع والنشاطات التطبيقية. القطاع الزراعي مدعوٌ لمراجعة أساليب زراعته وخططه المستقبلية، فالمزرعة ليست مكانًا للإنتاج فقط، بل للحياة. هذه الجهات حين تتكامل، لا تحمي النحل فحسب، بل تحمي إنسان هذا المكان، وغذاءه، وصحته.
في بيئتنا الشرقية من المملكة العربية السعودية التي تعيش الجفاف وموجات الغبار وغياب التنوع النباتي، لم تعد الطرق التقليدية كافية لحماية النحل. هنا تبرز الأرض نفسها كعنصر أساسي يمكن استنهاضه، من خلال إحياء الغطاء النباتي المحلي كضرورة استراتيجية لصحة الخلية وسلامة النحال. فكل زهرة تُزرع من نبات رعوي أصيل، وكل شجيرة تتحمل حرارة الصيف وتزهر في مواسم الجفاف وقلة الأمطار، تمثل فرصة حياة للنحل، واستثمارًا طويل الأمد في توازن الطبيعة.
إليكم هذا النموذج الملهم لما جرى في منطقة مرادي جنوب النيجر، حيث نجحت مجتمعات زراعية في إعادة زراعة أكثر من 200 مليون شجرة بطريقة طبيعية «تسمى إعادة إنبات الجذور - Farmer Managed Natural Regeneration»، دون ريّ اصطناعي ولا تقنيات معقدة. هذه المجتمعات أعادوا للمنطقة غطاءها النباتي، فزادت الأمطار، وتحسنت جودة التربة، وعادت الحشرات النافعة، ومنها النحل، بأعداد كبيرة. لم تكن المعجزة في التقنية، بل في عودة العلاقة بين الإنسان والأرض في أجواء يسودها الوعي والصبر.
باستثمارنا في المعرفة العلمية البيئية المحلية، وتوسعنا في زراعة النباتات الرعوية المتكيفة مناخيا، لا نكون قد ساهمنا في إعادة التوازن البيئي لمنطقتنا الشرقية من مملكتنا الحبيبة فحسب، بل حمينا النحلة وأكرمناها، لأنها تستحق أكثر.