آخر تحديث: 29 / 7 / 2025م - 2:00 ص

براعة مقدمات الشعر الحسيني.. المباشرة.. والغزل.. والحكمة

سلمان محمد العيد

1/ تمهيد:

تعد المقدمة أو التمهيد في القصائد الشعرية العربية من عوامل نجاح القصيدة، بل تعد أهم العوامل التي تستدعي القارئ «أو المتلقي بشكل عام» أن يواصل «أو لا يواصل» في التفاعل مع القصيدة «استماعا أو قراءة»، لأن المهمة الأساس لمقدمة أي قصيدة شعرية عربية تتمثل في جذب الانتباه، وتهيئة المتلقي للموضوع الرئيسي للقصيدة، وقد تعطي تنبيها لهذا الموضوع، ولذا فهي تصلح عنوانا رئيسا للقصيدة.

ولأن الموضوعات التي يتناولها الشعراء مختلفة، ومتعددة، وكثيرة، لذلك تعددت المقدّمات، حالها حال المقالة النثرية، أو القصة القصيرة، أو حتى الرواية المطوّلة، بل حتى البحث العلمي، فلا شيء من هذه الفنون تتم دون مقدمة، ثم يأتي المحتوى، ومن ثم تليها الخاتمة، وتتم في الغالب دون فصل يستدعي الاكتفاء لدى المتلقي، بل إذا كانت المقدمة ناجحة فإنّها تجتذب المتلقي وتأخذه نحو إكمال التفاعل مع المنتج.

ولو أطللنا ولو بحدود قليلة على المنتج الشعري العربي، في أي عصر كان، نجد تنوعا في المقدمات، فقد تأتي المقدمة تصف الأطلال والدمن القديمة، أو تصف الطبيعة المعاصرة، أو تصف المحبوبة المراد التغزّل بها، أو تصف الشعور الذاتي الإنساني، أو.. أو.. ونجد أن هذا التنوع لا يخضع لاختلاف العصور فقط، بل يأتي نتيجة لاختلاف الأذواق والطرائق والأمزجة لدى كل شاعر، فتجد أن هناك مقدمات مختلفة لشاعر واحد حسب قصائده وحسب منتجه، بل وحسب العصر والنطاق الجغرافي الذي يعيشه، والهدف الذي يريده، فإذا كان في مقام المدح يأتي بمقدمة تختلف عنه إذا كان في مقام الرثاء، وذلك يختلف ما إذا كان في مقام الهجاء أو الغزل، أو الاعتذار.

تجدر الإشارة هنا، إلى أن مقدمات الشعر العربي قد حظيت بدراسات عدة من أقطاب النقد الأدبي في القديم والحديث، وقد لا يحتمل المقام التطرق لها بالتفصيل، فليس هذا غرضنا في هذه السطور، وذلك لما يعكس الأهمية الكبيرة التي تحظى بها المقدمة في القصيدة العربية، والتي تعد من عوامل نجاحها، وشهرتها، ولا غرابة أن يكون الشطر الأول من البيت الأول لكل قصيدة هو عنوانها، فنقول إن قصيدة ”قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل“، أو ”قصيدة“ بانت سعاد ”، أو قصيدة“ لكل شيء إذا ما تم نقصان" وذلك على سبيل المثال، والنماذج كثيرة في هذا الصدد.

وما يعنينا في هذا الشأن، هو إطلالة على بعض مقدمات الشعر الذي نظمه شعراء أتباع أهل البيت ، وغرضنا في هذا الصدد هو قراءة بعض القصائد التي اتسمت بمقدمات تكاد تكون خارجة أو شبه بعيدة عن القصيدة الموجهة لأهل البيت «مدحا أو رثاء».

2/المقدمات المباشرة:

على ضوء قراءتنا المتواضعة لما أنتجه الشعراء الشيعة نجد أن بعض القصائد ذات مقدمات قويّة، مع أنّها جاءت مباشرة، وواضحة الهدف، فحينما يقول الشاعر ”الله أي دم في كربلا سفكا لم يجر في الأرض حتى أوقف الفلكا“ فإن من يقرأ القصيدة يعرف بأن الشاعر سوف يتحدث عن مصيبة الحسين وما جرى له، فالمقدمة واضحة للغاية، عدا أنّها لم تخل من أن تكون مقدمة مؤثرة، تجذب المتلقي للاستماع إلى التفاصيل التي تعنى هذا الغرض، فربّما قوّتها في الانتقال من العموم إلى الخصوص، أو من الإجمال إلى التفصيل، وهذا يجذب المتلقي.

والحال نفسه حينما ترى قصيدة المرحوم حسن القفطان رحمه الله في قصيدته في رثاء أبي الفضل العباس إذ يقول:

هيهات أن تجفو السهاد جفوني

أو أن داعية الأسى تجفوني

أنّى ويوم الطف أضرم في الحشى

جذوات وجد من لظى سجّين

يوم أبو الفضل استفزت بأسه

فتيات فاطم من بني ياسين

إذ من الواضح أن هذه المقدمة الرائعة ابتدأت بالتعميم ثم أخذت في التخصيص شيئا فشيئا، لتتابع وصف شجاعة ومصيبة ومأساة العباس ، وما نراه هنا أن المقدمة صريحة في الحديث عن الموضوع، لم نسلك خيارا بعيدا تبالغ في وصفه، كما سار الشعراء الجاهليون حيث يبدأ بالوقوف على الأطلال ثم وصف الفرس، ووصف المعشوقة، ثم يأتي للموضوع الذي يريده، ومن بعد ذلك قد يختم بالحكمة، مثل زهير بن أبي سلمى، أو بالشجاعة كما فعل عنترة العبسي.

وفي نموذج ثالث للمقدمات المباشرة ما تعارف عليه الشيعة في الأيام الأولى من شهر محرّم الحرام في قصيدة «أو ملحمة» الشيخ حسن الدمستاني التي جاءت بعنوان ”أحرم الحجاج“، فيقول في مقدمتها:

أحرم الحجاج عن لذاتهم بعض الشهور

وأنا المحرم عن لذاته كل الدهور

كيف لا أحرم دأبا ً ناحراً هدي السرور

وأنا في مشعر الحزن على رزء الحسين

حق للشارب من زمزم حب المصطفى

أن يرى حق بنيه حرماً معتكفا

ويواسيهم وإلا حاد عن باب الصفا

وهو من أكبر حوبٍ عند رب الحرمين

فمن الواجب عينا ً لبس سربال الأسى

واتخاذ النوح ورداً كل صبح ومسا

واشتعال القلب أحزانا تذيب الأنفسا

وقليل تتلف الأرواح في رزء الحسين

فمن الواضح أن هذه المقدمة مباشرة، يعرف المتلقي بأن الشاعر سوف يتحدث عن مصيبة الحسين ، لكنّه مع ذلك لا يعرف أي مصيبة، ولا يتوقع أن الشاعر رحمه الله سوف يعرض القصة كاملة من الألف إلى الياء، فكانت المقدمة تمهيدية، لكنّها مباشرة وصريحة أيضا. تلاها الدخول في عرض المأساة التي بدأت من المدينة المنورة حيث يقول الشاعر:

لست أنساه طريداً عن جوار المصطفى

لائذاً بالقبة النوراء يشكوا أسفا

قائلاً يا جد رسم الصبر من قلبي عفا

ببلاء انقض الظهر وأوهى المنكبين

وعلى ذات النسق نجد الشاعر السيد رضا الهندي يعطي مقدمة مباشرة، إذ لم يطل الحديث عن هدفه في القصيدة وهو وصف شجاعة أصحاب الحسين، إذ يقول:

كيف يصحو بما تقول اللواحي.

من سقتْه الهمومُ انكدَ راحِ

كيف تُهنيني الحياةُ وقلبي

بعد قتلى الطفوف دامي الجراح

فمن الواضح أن الشاعر يريد الحديث عن قتلى الطفوف، ويعني بذلك أنصار الحسين عليه و، ذلك قال:

بأبي من شَرَوا لقاءَ حسينٍ... بفراقِ النفوسِ والأرواح

وقفوا يدرؤون سمرَ العوالي... عنه والنبلَ وقفةَ الأشباح.

إننا من خلال هذا النموذج نجد أن الشاعر الهندي يبدأ بمقدمة حزينة، ويؤكد همومه، لكنّه لم يطل في وصف الحزن، إذا دخل في نطاق الموضوع المراد الحديث عنه مباشرة، وبطريقة انسيابية تدل على مستوى راق من الأدب وبراعة في عرض القصة، وتفاصيلها شعريا.

وعلى ذات النسق يسير الشاعر جعفر الهرّ الكربلائي في وصف شجاعة وشهادة علي بن الحسين الأكبر، الذي يعد من أبرز شهداء كربلاء، ومأساته من أشد المآسي التي مرّت على بيت الرسالة النبوية، فيقول رحمه الله:

بقلبيَ أوقدتْ ذاتُ الوقودِ

رزايا الطف لا ذاتُ النهودِ

شبابٌ بالطفوف قضى شهيدا

يشيب لرزئه رأسُ الوليدِ

وكانت هذه المقدمة قصيرة جدا، لا تتعدى هذين البيتين، فبعد أن يؤكد أن حزنه ليس بسبب الحب صوب النساء، وإنما ألهبت حشاه مصيبة واحد من شهداء الطف الذي يتصف بمواصفات خاصة، ليست لأحد غيره، فيبدأ بتعدادها قائلا:

شبيهُ محمدٍ خَلقا وخُلقا

وفي مشيٍ وفي لَفتَات جيدِ

وفي نطقٍ لسانُ الوحي منه

يرتّله بقرآن مجيد

وفي وجهٍ يفوق البدرَ نورا

وفي سيمائِه أثرُ السجودِ

فما أدري اُهني أم أعزي

عليَّ المرتضى بابن الشهيدِ

فطورا يا عليُّ به أهني

وأنظم مدحَه نظم العقودِ

عليٌ بالطفوف أقام حرباً

كحربك يا عليُّ مع اليهودِ

وصيّر كربلا بدرا واُحدا

ونادى يا حروبَ الجدِّ عودي

وقاتل بكرَهم كقتال عمروٍ

وغادر جسمَه نهبَ الحديدِ

ثم بعد ذلك يعرض قصة شهادته، وما جرى عليه، مؤكدا بأن مصيبة هذا الشاب أنّه ليس كأحد من الشباب، فهو أشبه الناس خلقا وخلُقا برسول الله، ويحمل مع هذه الصفة صفات أخرى من أعمامه وأجداده، وأبرزهم بالطبع الإمام علي ، إذ بدا في قتاله شبيها له في حركاته ونزالاته.

يذكر في هذا الصدد أن الشيعة في شهر رمضان المبارك يحتفون بالذكرى السنوية لاستشهاد بطل الإسلام الخالد الإمام علي بن أبي طالب، ويقرأ خطباؤهم قصيدة الشاعر جعفر الحلي التي يقول فيها:

لبس الإسلام أبراد السواد

يوم أردى المرتضى سيف المرادي

ليلة ما أصبحت إلا وقد

غلب الغي على أمر الرشاد

والصلاح انخفضت أعلامه

وغدت ترفع أعلام الفساد

ما رعى الغادر شهر الله في

حجة الله على كل العباد

وببيت الله قد جدّ له

ساجداً ينشج من خوف المعاد

وتعد هذه القصيدة ذات مقدمة أكثر مباشرة من أي قصيدة أخرى، من القصائد التي ذكرت أعلاه.

الخلاصة أن الشعر الولائي لدى الشيعة، يعرض قصائده بمقدمات مباشرة، تعرض المأساة دون تمهيد، أو بـ ”تمهيد“ بسيط لا يتعدى البيت أو البيتين، ونرى أن الشعر الولائي بهذا النمط التمهيدي يسير ضمن النسق الذي استجد منذ العصر العباسي، إذ ظهر لنا شعراء خالفوا النسق الذي سار عليه ما قبلهم خصوصا في عصر ما قبل الإسلام، وهي الدخول المباشر في القصيدة، وقد أبدع في هذا الشأن الشاعر العباسي الحسن بن هاني «أبو نواس». ولعل أقرب الأمثلة في ذلك هو الشاعر دعبل الخزاعي «وهو من شعراء العصر العباسي الأول، كونه عاصر الإمام الرضا وهو معاصر للخليفة المأمون»، والذي اشتهر لدى الشيعة بقصيدة يقول فيها:

مَدارِسُ آياتٍ خَلَت مِن تِلاوَةٍ

وَمَنزِلُ وَحيٍ مُقفِرُ العَرَصاتِ

لِآلِ رَسولِ اللَهِ بِالخَيفِ مِن مِنىً

وَبِالرُكنِ وَالتَعريفِ وَالجَمَراتِ

دِيارُ عَلِيٍّ وَالحُسَينِ وَجَعفَرٍ

وَحَمزَةَ وَالسُجّادِ ذي الثَفِناتِ

دِيارٌ عَفاها جَورُ كُلِّ مُنابِذٍ

وَلَم تَعفُ لِلأَيّامِ وَالسَنَواتِ

قِفا نَسأَلِ الدارَ الَّتي خَفَّ أَهلُها

مَتى عَهدُها بِالصَومِ وَالصَلَواتِ

وَأَينَ الأُلى شَطَّت بِهِم غَربَةُ النَوى

أَفانينَ في الآفاقِ مُفتَرِقاتِ

هُمُ أَهلُ ميراثِ النَبِيِّ إِذا اِعتَزَوا

وَهُم خَيرُ قاداتٍ وَخَيرُ حُماةِ

فهو يبدأ بشكل مباشرة، ويعرف المتلقي بأن الشاعر سوف يتطرق إلى ما جرى على أهل البيت، واللافت في الأمر هو الدخول المباشر للهدف الذي يقصده ويسعى للحديث عنه.

3/ المقدمات الغزلية:

من ينظر إلى القصائد التي تروى على ألسنة الخطباء، وهي من الأصل موجودة في بطون الكتب والدواوين التي تحكي أدب الطف أو أدب الولاء للعترة الطاهرة، تجد أن بعض المقدمات لم تأت مباشرة مثل التي أشرنا لبعضها في السطور السابقة، ولكنّها جاءت غير مباشرة، أي أنّها جاءت بعد عدد من الأبيات لا علاقة مباشرة بالحدث «المدح أو الرثاء لأهل البيت»، ولكنّها ”غزلية“ عاطفية تحاكي الوجدان والحب والشوق، وكل مفردات الحب المتعارف عليها، وتتحدث عن الأطلال والدمن، والفراق والمعاناة في الحب والهوى، ومن بعد هذا العرض، يجد الشاعر نفسه مضطرا لأن يتخلّى عن الغزل، ويحوّل جيش مشاعره باتجاه معركة أخرى، غير معركة الحب والعشق، وإنّما البكاء والحزن على أوليائه الكرام .

ولدينا عدد من النماذج التي ابتدأت بمقدمات غزلية، ثم عرّجت على الموضوع الأساسي، وذلك على غرار ”بانت سعاد فقلبي اليوم متبول“ التي ابتدأت بالغزل وقام الشاعر بعد ذلك بمدح الرسول الأعظم، ليقدم لنا أحد أهم قصائد المديح في الشعر العربي، وقد قيل أنّ الرسول الأعظم وضع عليه بردته، مقرّرا العفو عنه ومنحه الأمان.

أحد النماذج هو ما قاله الشاعر الشيخ حسّون العبد الله إذ يقول:

علمتم بمسراكم أرعتم فؤاديا

وأجريتم دمعي فضاهى الغواديا

ألا يا أحبائي أخذتم حشاشتي

وخلّفتم جسمي من الشوق باليا

فيا ليتني قد متٌّ قبل فراقكم

وذاك لأني خفت أن لا تلاقيا

إذا ما الهوى العذري من نحو أرضكم

سرى فغدا للقلب ريّاً وشافيا

ظللت أبثّ الوجدَ حتى كأنني

لشجوي علّمتُ الحمام بكائيا

تناسيتم عصر الشباب بذي الغضا

وكم قد سررنا بالوصال لياليا

إلى هنا والكلام غزلي، بالنمط العذري المتعارف عليه في الشعر العرب، خلافا للشعر الصريح أو الفاحش مثل شعر امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة والحسن بن هاني وغيرهم، وفيه يعرض الشاعر صورة من آلام العاشقين وفراق الأحبة، وبالطريقة نفسها التي كان يتحدث عنه شعراء الحب أو العشق العذري مثل جميل بثينة، وقيس بن الملوح، وقيس بن ذريح، وكثير عزّة وغيرهم من عشاق العرب الشعراء، لكنّ الذي حدث أن الشاعر الحسيني وبعد هذه المقدمة الغزلية، ينتقل إلى موضوع يلح على مشاعره ويأخذ بحشاشة قلبه ليقول مخاطبا شخصا متخيّلا أو رفيقا:

فدع عنك يا سعد الديار وخلّني

أُكابد وجداً في الأضالع ثاويا

لخطب عرا يوم الطفوف وفادح

أمادَ السما شجواً ودك الرواسيا

غداة قضى سبط النبي بكربلا

خميص الحشا دامي الوريدين صاديا

وقته لدى الحرب الزبون عصابة

تخالهم في الحرب أسدا ضواريا

كماة إذا ما الشوس في الحرب شمّرت

أباحوا القنا أحشاءهم والتراقيا

أسود إذا ما جرّدوا البيض في الوغى

غدت من دم الأبطال حمراً قوانيا

وقد قارعوا دون ابن بنت نبيهم

إلى أن ثووا في الترب صرعى ظواميا

وعاد ابن خير الخلق بالطف مفرداً

يكابد أهوالاً تشيب النواصيا

يرى آلَه حرّى القلوب من الظما

وأسرته فوق الرغام دواميا

***

ولدينا نموذج آخر هو الشاعر المرحوم الشيخ حسين شهيب الحلي، الذي قدّم مقطوعة شعرية، دأب بعض الخطباء على قراءتها في اليوم العاشر من المحرّم، لكنّهم لا يوردون الكثير من أبيات الغزل التي تضمنته القصيدة التي يقول فيها:

قد هاج في قلب الشجيِّ غرامُ

لركبٍ بجرعاءِ الغُمَيمِ أقاموا

سروا فأسلتُ الدمعَ إثرَ مسيرهمْ

دماً والحشا مني عَراه سُقامُ

وقد قُوِّضَ الصبرُ الجميلُ لبَينِهم

وشبَّ عليهم في الفؤاد ضرامُ

ظللت أنادي في ربوع فلم تجب

ندائي وأنى للربوع كلامُ

أَأَحبابَنا هل من سبيل لوصلِكم

فيَحيى فؤادٌ لُجَّ فيه هيامُ

وهل نلتقي بعد الفراق سُويعةً

فيُطفى من القلب الشجيِّ أوامُ

وعلى ذات النسق ينتقل إلى الموضوع الرئيس الذي هو هدفه من هذه القصيدة، فالغزل مقدمة، وآلية الوصل خطاب روحي للشخص المتخيّل، لينتقل بصورة لا تخلو من براعة أدبية للحديث عن كربلاء ومصيبة كربلاء، وكأنه كان غافلا فمال إلى الهوى، وما أن وعى وعاد عقله، نجده يتحدث عن قصة أخرى، ومشكلة أخرى هي أقوى وأكثر وطأة على القلب من العشق والهوى ليقول:

فيا سعدُ دعْ عنك الصبابة والهوى

وعرّج على مَن بالطفوف أقاموا

وحيي كراما من سلالةِ هاشمٍ

نمتها إلى المجد الأثيلِ كرامُ

رأت أن دينَ الله بين أميةٍ

تَلاعبُ فيه ما تشاء طَغامُ

وقامت لنصر الدينِ فرسانُ غالبٍ

عليها من البأس الشديدِ وسامُ

إلى أنْ ثووا في التربِ بين مبضَّع

ومنعفِرٍ منه تطاير هامُ

ويتجلّى الإبداع الشعري في هذه القصيدة في الانتقال التلقائي من الحب والغزل والعشق إلى الرثاء والبكاء أو الإشادة بالشجاعة والتي تدخل في خانة ”المديح“، ولا يختلف هذا الأمر بين ما يفعله شعراء العصور السابقة الذين دأبوا على افتتاح قصائدهم بالحب والبكاء على الأطلال، إذا بهم يصفون الخيل والسلاح وسرد المعارك وتواريخ القتال، وقد يورد الحكمة والتوجيه والنصيحة.

***

ونجد هذا الأمر أوضح في القصيدة التي تنسب إلى الشاعر الملا عبد المحسن بن نصر، إذ يبدأ بمقدمة غزلية طويلة، بل وصريحة في الغزل لا تقبل التأويل أو التحويل، فيقول:

بزغت لنا شمس الجمالِ من بين أطناب الحجالِ

خود بمنظرها تريك البرق في وقت الزوالِ

هيفا تميس بقدها تختال تيهاً في الدلالِ

تحكي الورود خدودها والثغر منها كالّآليْ

كالصبح نور جبينها ولها جعود كالليالي

ولها لحاظ فاتكاتٌ مثلما البيض الصقالِ

كم ذو حجى من لحظها أمسى نحيلاً كالخلالِ

ترمي سهام قسيّها فتصيب أكباد الرجالِ

فاعجب لظبي في الفلا يصطاد آساد النزالِ

نفثت عليّ بسحرها فاعجب من السحر الحلالِ

وغدت تقدّ بقدّها قلبي وجسمي واحتمالي

فدنوت منها خاضعاً متذلّلاً أرجو نوالي

باللّه جودي وارحمي وترفّقي يوماً بحالي

رقّي لحال متيم وعديه يوماً بالوصالِ

مني علي بزورة يُشفى بها داء انتحالي

لا شك ولا ريب أن كل ما قيل في هذه الأبيات الرقيقة هي غزل واضح، لا يمكن أن يعطي أي صورة أو معنى آخر، فهو يتعرّض إلى ما اعتاد عليه شعراء الغزل العربي للحديث عن العيون والقدود والقوام والشعر، وما تحدثه هذه المواصفات بالرجل الهائم المائل، وما يتعرّض له من معاناة، ولا ينسى أن يصف معاناته مع هذه الفتاة الجميلة الناعمة، المغرورة القاسية.

بعد ذلك يقول:

فقست علي وأعرضت عني وأغضبها مقالي

شحّت علي بوصلها ونوت بهجري وانفصالي

فحرمت منها مثلما حرم الحسين من الزلالِ

منعته شرب فراتها أهل الخيانة والضلالِ

ظنّت بما فعلت به الأجلاف من سوء الفعالِ

أن يخضعن لأمرهم خوفاً بتهديد القتالِ

أوما درت بابن الرسول أخي الوغى ليث النزالِ

فمتى ابن هزّاز الحصون تهزّه السمر العوالي

فهناك جرّد عضبه سبط النبي أبو المعالي

فانصاع في الأجلاف ضرباً باليمين وبالشمالِ

وغدت تسيل دماؤهم كالسيل من روس الجبالِ

حتّى إذا نزل القضا ودعاه داعي الارتحالِ

زحفت على شبل الوصيّ جموع أبناء الضلالِ

وعليه حاطت بالسيوف وبالرماح وبالنبالِ

حتّى هوى عن سرجه للّه محمود الفعالِ

لبّى لدعوة ربّه وسما إلى برج المعالي

وبهذه الصورة ينتقل من مقدمة غزلية إلى رثاء ورصد بعض ملامح الغدر والعنف الذي جرى بحق الإمام الحسين ، ويربط بن جور هذه الحبيبة، وجور الجيش الأموي بحق الإمام الحسين .

وتتجلى براعة الانتقال من الغزل إلى حديث آخر يدمج بين الوصف والمديح والرثاء، فتكون القصيدة جامعة بين عدة ضروب أو عدة مجالات في الشعر العربي، وهذا ما يؤكد إيجابية الشعر الولائي ومساهمته الفاعلة في الشعر العربي، الذي يعاني من هجوم مبالغ فيه، يدعو أربابه بكل جرأة إلى التخلّي البيت الشعري العربي الموزون المقفّى، تحت مسميّات الحداثة وإتاحة المجال للشعور أن يأخذ مداه ليعبر عن شأنه، ليأتي الشعر الولائي الشيعي ليؤكد حضور الشعر العربي بأصالته، ولا يحمل أي نية أخرى لنماذج الشعر العربي الحديث، وزاد على ذلك بأن قام بعرض الموضوعات نفسها التي يعرضها شعراء العصور العربية كلّها.

***

وفي هذا الصدد، وقبل الانتهاء من هذه النقطة، نشير إلى أن بعض القصائد الغزلية، التي جاءت ضمن مقدمات الشعر الولائي لأهل البيت اتسمت ببعض ألفاظ اللغة العربية التي دأب عليها شعراء العصور الذهبية للشعر العربي، والتي نجدها في هذه القصيدة المشهورة والتي تردد في اليوم السابع من المحرم، أو حينما يراد ذكر سيرة أحد أبطال كربلاء وهو العباس بن علي بن أبي طالب، والتي يقول فيها الشاعر:

لو كنت تعلم ما في القلب من شجن

ما ذاق طرفك يوماً طيّب الوسنِ

ولو رأيت غداة البين وقفتنا

أسلتَ قلبك دمعاً كالحيا الهتن

ناديت مذ طوّح الحادي بظعنهم

وراح يطوي فيافي الأرض بالبدن

يا راحلين بصبري والفؤاد معاً

رفقاً بقلب محبٍّ ناحل البدن

كم ليلة بتّ مسروراً بكم طرباً

 طرفي قرير وعيشي بالوصال هني

أخفي محبتكم كيلا ينمّ بنا

 واشٍ ولكنّ دمع العين يفضحني

ظللت في ربعكم أبكي لفقدكم

كما بكين حماماتٌ على فنن

طوراً أشمّ الثرى شوقاً وآونة

أدعو ولا أحد بالردّ يسعفني

من الواضح أن الشاعر هنا يتحدث عن ألم ومعاناة وفراق وشجى وبكاء ودموع ساخنة فاضحة، ونوح مثل نوح الحمام، وبفعل هذا الهوى بات القلب والصبر أراضي محتلة من قبل الأحباب الذين يتصفون بأقصى درجات القسوة والعنف. وإذا كان كل من قيس وجميل وكثيّر، وقبلهم عنترة وزهير وغيرهم من العشاق أبدوا عشقهم في أشعارهم، بينما شاعرنا يقول: ”أخفي محبتكم كيلا ينمّ بنا واش، ولكن دمع العين يفضحني“، فهواه حينما يخرج إلى العلن فجاء بالرغم منه، فدموعه فاضحة نظرا لغزارتها، ولا تسيل بهذه الغزارة إلى دموع العشاق.

إن من يتحدث عن هذه الأمور هو قيس بن الملوح الذي تمنّى في يوم ما أن يكون له قلبان يعيش بواحد ويترك الآخر لعذاب الفراق «ولو كان لي قلبان عشت بواحد، وتركت قلبا في هواك يعذب»، ولا يختلف هذا الشاعر عن هذا المجنون الذي حثا التراب على وجهه، وشاعرنا هنا يشم الثرى من الشوق، ويصيح في الفيافي ولا أحد يقف ويتضامن معه، وهو أشد في حبّه ووله من مجنون بني عامر الذي أشفق عليه أهله، وكانوا يتعاهدون ويراعون وضعه قبل أن يموت.

مع هذا الحب وهذا الهوى والمعاناة، نجد أن عشقه لآل البيت أقوى من كل ذلك فيدعو إلى ترك البكاء على الأطلال، والتوجه للبكاء على الحسين ومصاب الحسين ومعاناة الحسين، خصوصا بعد سقوط أخيه أبي الفضل العباس فيقول:

دع عنك يا سعد ذكر الغانيات ودع

عنك البكاء على الأطلال والدمن

واسمع بخطب جرى في كربلاء على

آل النبي ونح في السر والعلن

يوم به المصطفى باتت حشاشته

حرّا ولم ترق عين من أبي حسن

يوم به الدين أضحى يشتكي سقما

وأعولت محكمات الفرض والسنن

لم أنسَ سبط رسول الله منفرداً

  وفيه أحدق أهل الحقد والإحن

يرنو إلى الصحب فوق الترب تحسبها

بدور تمّ بدت في الحالك الدجن

لهفي له إذ رأى العباس منجدلا

فوق الصعيد سليبا عافر البدن

أليس غريبا أن ذلك العاشق المحتلة مشاعره وأحاسيسه، والمصاب في كل أجزاء بدنه وقلبه وعقله وكيانه، يدعو لنبذ الصبابة والهوى، والتوجه إلى كربلاء فالمصاب فيها أشد وأعظم، لأن فيها مصاب عام متوجه صوب الدين، وقيادة الدين المتمثلة في النبي المصطفى وعلي المرتضى وابنهما الحسين بن علي جميعا. فالشاعر ينتقل من معاناته الذاتية إلى المعاناة العامة، وهي معاناة الدين والفرض والسنن، والتي جسّدها الإمام الحسين، وتحمّل من أجلها كامل التضحيات، يكفي فقدان أخيه وكبش كتيبته أبي الفضل العباس الذي من أجله:

نادى بصوت يذيب الصخر يا عضدي

ويا معيني ويا كهفي ومؤتمني

عباس قد كنتَ لي عضباً أصول به

وكنتَ لي جنّة من أعظم الجنن

عباس هذي جيوش الكفر قد زحفت

نحوي بثارات يوم الدار تطلبني

ونحن بهذا نظن أن التمهيد بات جاذبا للمتلقي، ولو كان غزلا صريحا، يحكي المعاناة التي يتصف بها العاشقون، وبذلك نجد مساهمة كبيرة في رفد الشعر العربي بنماذج من القصائد تنتقل بصورة انسيابية جدا من موضوع الغزل والوقوف على الأطلال إلى موضوع هو النقطة المركزية لدى شعراء البيت النبوي الكريم.

4/ مقدمات الوعظ:

من الثابت أن ذكر مصائب أهل البيت «خصوصا مصيبة أبي عبدالله الحسين» هي للموعظة، والتذكير بثواب وعذاب الله، وتعريف الناس «عبر الأجيال» بما تعني هذه الدنيا، وأنّها في جميع الأحوال مزرعة للآخرة، وإن البقاء فيها محدود بوقت، على الإنسان أن يستغلّه لما يضمن واقعا أفضل في الحياة الآخرة، عن طريق السلوك الخيري في الحياة الدنيا.

وكما نعلم إن إيراد المصيبة ببعض تفاصيلها يتم في مناسبات عدة، منّها مناسبات الفواتح، فمن المتعارف عليه أن الشيعة في انتقل أي فرد منهم إلى العالم الآخر ينصب له العزاء لمدة ثلاثة أيام، بواقع مجلسين في اليوم، يتم ضمن فقراته صعود أحد الخطباء المنبر وذكر الموعظة، والتذكير بعذاب الله وثوابه، ومصير الإنسان، والتزهيد في الدنيا، وكل ذلك مما يهذب الأخلاق، ويحد من النزوع إلى الطمع والحقد والتمادي وما شابه ذلك، ويتم ذلك كما اعتاد الناس بأن الخطيب حينما يصعد، لا يتحدث مباشرة عن المصيبة الحسينية «أو مصيبة أي واحد من أهل البيت النبوي الكريم»، وإنّما يبدأ بمقدمة شعرية وعظية، بها من التذكير والتحذير الشيء الكثير، تنسجم مع المناسبة الحزينة، ومن ثم يتم ربطها بالقضية المراد التطرق لها.

وتبعا لهذا الغرض، نظم شعراء أهل البيت قصائد كثيرة تقدم هذا النمط، نورد هنا ثلاثة نماذج من أشهر القصائد التي يوردها الشعراء والخطباء، فهي ظاهرة ذات بعد كتابي «شعري»، وبعد خطابي «صوتي»، بالتالي فهي داعمة وخادمة للأدب العربي بشقيه الكتابي والخطابي على حد سواء.

النموذج الأول، هي قصيدة للشريف الرضي رحمه الله، وهو شاعر وعالم من كبار علماء الدين الشيعة، ولد في العصر العباسي الأخير، ويعد من فحول الشعر العربي على الإطلاق، له في هذا الشأن قصيدة تورد في الفواتح بكثرة، ويقول فيها:

راحل أنت والليالي نزول

ومضرّ بك البقاء الطويل

لا شجاعٌ يبقى فيعتنق

البيض ولا آملٌ ولا مأمول

غاية الناس في الزمان فَناء

وكذا غاية الغصون الذبول

إنما المرء للمنيّة مخبوءٌ

وللطعن تستجمّ الخيول

مَن مقيل بين الضلوع إلى

طول عناءٍ وفي التراب مقيل

فهو كالغيم ألّفته جنوبٌ

يوم دجنٍ ومزّقته قبول

عادة للزمان في كل يومٍ

يتناءى خِلٌ وتبكي طلول

فالليالي عون عليك مع البين

كما ساعد الذوابل طول

ربما وافق الفتى من زمانٍ

فرحٌ، غيره به متبول

هي دنيا إن واصلت ذا جفت

هذا ملالاً كأنها عطبول

كل باك يبكى عليه وإن

طال بقاءُ والثاكل المثكول

والأمانيّ حسرة وعناء

للذي ظن إنها تعليل

ما يُبالي الحِمام أين ترقّى

بعدما غالت ابن فاطم غول

من يقرأ هذه الأبيات لا يحتاج كثير عناء ليقف أمام الحقيقة التي أراد الشاعر الحديث عنها، واستطاع إيصالها إلى المتلقي بوسائل أدبية كثيرة، من قبيل التشبيه والاستعارة والطباق وما شابه ذلك، فالشاعر في هذه المقدمة الطويلة بعض الشيء جاء ليقول بأن الإنسان مهما طال عمره فسوف يقف أمام حتمية الرحيل، وحتمية الفناء، والذهاب إلى العالم الآخر، والبقاء في هذه الدنيا ليس دائما، بل يكون مضرا لصاحبه إذا أطال المقام بها، فطول العمر لا يعني غير المزيد من الابتلاءات والعجز والضعف والمرض والحاجة، و”مضر بك البقاء الطويل“.

وهذا الأمر لا يقتصر على أحد دون أحد، فلا شجاع، ولا أمل ولا مأمول، ولا كبير، ولا صغير، ولا رجل ولا امرأة، بل لا أحد يملك خيار البقاء في هذه الدنيا، فالكل يسير نحو غاية واحدة هي الفناء، فالبشر لا يختلفون كثيرا عن الغصون التي لا بد وأن يأتي يوم عليها وتذبل وتنتهي.

ويخلص بعد ذلك بالقول إن هذه الدنيا هي قمة التناقضات، فاليوم تكون فرحا، وغدا يغادرك الفرح ويداهمك الحزن، كما أنك في يوم ما تخبر أو تبكي على فقد عزيز، لتصبح فيما بعد عزيزا يبكي عليك، كما أن هذا الفرح الذي يأتي لإنسان ما قد يكون لدى إنسان آخر حزنا.

وبعيدا عن القيمة الأدبية التي يحتويها هذا النص «أو الأبيات السابقة»، كيف يكون شعور المتلقي إذا سمعها في مناسبة وفاة عزيز عليه، أو قريب أو غريب؟ لا شك ولا ريب أن هذه الكلمات وبهذه الصيغة الرائعة سوف تمنحه الصبر والتسليم لقضاء الله، وبالتالي البقاء في دائرة اليقين، والبعد عن دوائر الشك واليأس والقنوط، أليس هذا الأمر تربية أخلاقية رائعة؟ ألا يمكننا القول بأن الأدب الحسيني يساهم في تهذيب النفس البشرية، وتعميق علاقتها بالله، فالشاعر هنا يؤكد حقارة الدنيا وتضاؤل قيمتها كونها اغتالت أهم شخصية على هذا الوجود وهو الحسين بن علي «سبط رسول الله وريحانته».

وهنا يحقق الشاعر النقلة من الحديث عن الدنيا وغرورها ومصيرها، وبكل إيجابية للحديث عن مصيبة الحسين ، فالدنيا بما هي هي تعد ”ورقة في فم جرادة“، كما قال الإمام علي ، فكيف بها وهي وأهلها تغدر بأفضل من على البسيطة.

ليقول:

أيّ يوم أدمى المدامع فيه

حادث رائع وخطب جليل

يوم عاشورٍ الذي لا أعان

الصحب فيه ولا أجار القبيل

يا ابن بنت الرسول ضيّعت

العهدَ رجالٌ والحافظون قليل

ما أطاعوا النبي فيك وقد مالت

بأرماحهم إليك الذحول

****

هذا ما قاله الشريف الرضي، الذي انتقل من ذم الدنيا وأهلها، كونها غدرت بأحمد المختار، وجاءت على أهله وعياله بصورة ظالمة غير متصوّرة، وأما ما قاله الشيخ حسن الدمستاني «النموذج الثاني»، فلا يخرج عن هذا عدا أن الحكمة والموعظة أخذت جوانب أخرى، تتمثل في عرض صفات المتقين، وأهم صفاتهم هي العلم والعمل والثقة بالله، والتوجه له، فهم بتقواهم وأخلاقهم يسلكون طريق الحسين .

يقول في تمهيده لذكر مصيبة الحسين . إذ يقول رحمه الله:

من يلههِ المُرديان المال والأملُ

لم يدرِ ما المنجيان العلم والعملُ

خذ رشد نفسك من مرآة عقلك لا

 بالوهم من قبل أن يغتالك الأجلُ

فالعقل معتصمٌ والوهم مُتهمٌ

والعمر منصرمٌ والدهر مرتحلُ

إن الأنامَ مِطىْ الأيام تحملهُم

إلى الحِمامِ وإن حلوا أو ارتحلوا

لا يولد المرء إلا فوق غارِبها

 يحدو به للمنايا سائقٌ عجلُ

يا منفق العمر في عصيان خالقه

أفق فإنك من خمر الهوى ثملُ

تعصيه لا أنت من عصيانه وجلٌ

من العقاب ولا من مَنهِ خجلُ

أنفاس نفسك أثمان الجنان فهل

تشري بها لهباً في الحشر تشتعلُ

تشح بالمال حرصاً وهو منتقلٌ

وأنت عنه برغمٍ منك تنتقلُ

ما عذر من بلغ العشرين إن هجعت

عيناه أو عاقه عن طاعةٍ كسلُ

إن كنت منتهجاً منهاج ربِّ حِجَىً

فقم بجنح دُجَى لله تنتفلُ

ألا ترى أولياء الله كيف قَلَت

طيب الكرى في الدياجي منهم المُقلُ

يدعون ربهم في فك عنقهمُ

من رِقِّ ذَنبِهِم والدمع ينهملُ

نحف الجسوم فلا يُدرى إذا ركعوا

 قِسِيُّ نَبلٍهم أم رُكعٌ نُبُلُ

خُمْصُ البطون طِوىً ذبل الشفاه ظماً

عُمشُ العيون بُكلً ما عَبَّها الكَحَلُ

يُقال مَرضىً وما بالقوم من مرضٍ

أو خولطوا خبلاً حاشاهم الخَبَلُ

تعادل الخوف فيهم والرجاء فلم

يفرطُ بهم طمعٌ يوماً ولا وجلُ

إن ينطقوا ذكروا أو يصمتوا شَكَروا

أو يغضبوا غفروا أو يقطعوا وصلوا

أو يُظلموا صفحوا أو يُوزنوا رجحوا

أو يسألوا سمحوا أو يحكموا عدلوا

فلا يلِم بهم من ذنبهم لممٌ

 لا يميل بهم عن وردهم مَلَلُ

إن هذا العرض الذي يقدس الطاعة ويرفض المعصية، ويعلي من الأخلاق وينبذ الرذيلة، ويدعو إلى العقل والتخلّي عن الأوهام، ويعيد كل ذلك على انتهاج طريق الله، ولا يعني هذا الطريق غير الإيجابية والمناقبية وكل ما هو حسن في هذه الحياة. إنّها دعوة للإصلاح الذي ينشده الإمام الحسين وكرره في كل خطبه.

ويضع هذا الشاعر وهو أيضا من علماء الشيعة المتشرعة خيارين للإنسان في هذه الحياة، أما الهلاك أو النجاة «في الدنيا والآخرة»، فالهلاك له أسلحته ووسائله وأبرزها الاشتغال واللهو بالمال والآمال الكاذبة، في المقابل فالنجاة لها سلاحها الأعظم وهو العقل والعلم والعمل بهما، فالعاقل يعرف قيمة الدنيا وقيمة العمر فلا ينفقه في طرق وعرة، لا تعود عليه بالنجاة في الدنيا ولا في الآخرة، بل تتعدى آثارها إلى الآخرين، فالخارج عن طريق الله يفسد على نفسه ويفسد في الأرض، وينال من الآخرين.

لم يكتف الشاعر بذكر هذه الصورة في هذا التمهيد الطويل بل ذكر صفات المتقين، التي شرحها الإمام علي لصديقه همام، حينما سأله أن يشرحها له، وما أن انتهى من الوصف حتى هلك همام خشية من الله، فقال سلام الله: ”هكذا تفعل المواعظ بأهلها“.

إن المتأمل لهذه القصيدة وغيرها من قصائد الزهد يجد أن ثمة تربية أخلاقية راقية، يسير بها هذا الشاعر، ويقدمها ذلك الخطيب للمتلقي، فهو يعرض صفات القدوة، والشخصية التي ينبغي أن تتبع، أولئك هم أولياء الله جل شأنه، ففيهم صفات الخوف من الله، والرجاء لعفوه، وفيهم الكرم والسخاء، والعفو والتسامح، والتواضع، حتى من يراهم يظن أنّهم مرضى وما بالقوم من مرض، أو يقول عنهم بأنهم ”خولطوا خبلا، حاشاهم الخبل“.

وإذا كان الشريف الرضي رحمه الله قد عرض صفات الدنيا ومخازيها ومآسيها، فهنا الشيخ حسن الدمستاني «وهو صاحب ملحمة أحرم الحجاج عن لذّاتهم»، يعرض آلية التعامل مع الدنيا، وهي طريقة المتقين، ويعرض صفاتهم، نقلا بالمعنى واللفظ مما قاله أمام المتقين وسيد العارفين وقسيم الجنة والنار علي بن أبي طالب.

وإذا كان الشريف الرضي «قدّس سرّه» قد هجا الدنيا لأنّها غدرت بالإمام الحسين فإن الشيخ الدمستاني «طاب ثراه» يعرض صفات المتقين الذين لا يبكون على نعيم الدنيا أبدا، ولا يجري لهم دمع على أحد إلّا على الحسين وأصحابه لذلك يقول:

ولايسيل لهم دمعٌ على بشرٍ

إلا على معشرٍ في كربلاء قُتلوا

رَكبٌ برغم العُلى فوق الثرى نزلوا

 وقد اُعِدَّ لهم في الجنة النُزلُ

تُنسي المواقف أهليها مواقفهم

 بصبرهم في البرايا يُضرب المثلُ

سَدٌّ إذا اتَّسقوا أُسدٌ إذا افتَرقوا

شُهبٌ إذا اخترَقوا الأبطالَ واقتَتَلُوا

ذاقوا الحتوف بأكناف الطفوف على

رغم الأنوف ولم تبرد لهم غللُ

أفدي الحُسينَ صَريعاً لا صَريخَ لَهُ

إلا صَريرَ نُصُولٍ فيهِ تَتَّصِلُ

أفدي الحسين طريحاً لا ضَريحَ لَهُ

وما لَهُ غَيرَ قاني نَحرِهِ غُسُلُ

دماؤُهُ هطلت للشيب منه حَنَىًّ

والجسم قد حجلت من فوقه الحجلُ

والرأس مرتفعٌ في رأس مُنتصبٍ

يبكي على حمله المَرِّيخُ والحَمَلُ

إننا أمام صورة رائعة من العرض الأدبي من شاعر متمكن من لغته، تحرّكه مشاعر عقدية عميقة، تتمثل في الإيمان بالله، والزهد في الدنيا، ثم الولاء لأهل البيت، ابتدأ بمقدمة وعظية، شرح فيها صفات المتقين الخائفين من الله الراجين ثوابه، ليؤكد بأن هذا الإيمان يدفعهم للبكاء فقط على مصيبة السبط الكريم الإمام الحسين .

***

أما النموذج الثالث، ماذا يقول السيد رضا الهندي، الذي ملأ الخافقين بأشعاره الولائية؟

يقول رحمه الله:

أرى عمري مْؤذِناً بالذهابِ... تَمُرُّ لياليهِ مَرَّ السحابِ

وتُفجِئُني بيضُ أيامه... فتسلخُ منّي سوادَ الشبابِ

فمَنْ لي إذا حانَ منّي الحمام... ولم أستطع منهُ دفعاً لما بي

ومَنْ لي إذا قلَّبتني الأكفُّ... وجرّدني غاسلي من ثيابي

ومَنْ لي إذا صرتُ فوق السريرِ... وشيلَ سريري فوقَ الرقابِ

ومَنْ لي إذا ما هجرتُ الديارَ... وأعتضتُ عنها بدارِ الخرابِ

ومَنْ لي إذا آبَ أهلُ الودادِ... عنِّي وقد يئسوا من إيابي

ومَنْ لي إذا ما غشاني الظلامُ... وأمسيتُ في وحشةِ واغترابِ

ومَنْ لي إذا منكرٌ جدَّ في... سؤالي فأذهلني عن جوابي

ومَنْ لي إذا دُرستْ رمّتي... وأبلى عظامي عفرَ الترابِ

ومَنْ لي إذا قامَ يومُ النشورِ... وقمتُ بلا حجّةٍ للحسابِ

ومَنْ لي إذا ناولوني الكتابَ... ولم أدرِ ماذا أرى في كتابي

ومَنْ لي إذا امتازت الفرقتانِ... أهلُ النعيمِ وأهلُ العذابِ

وكيفَ يُعاملني ذو الجلال... فأعرفُ كيفَ يكونُ انقلابي

أباللطفِ، وهو الغفورُ الرحيم،... أمْ العدلِ وهو شديدُ العقابِ

وياليتَ شعري إذا سامني... بذنبي وواخذني باكتسابي

فهل تُحرقُ النارُ عيناً بكت... لرزءِ القتيلِ بسيفِ الضبابي؟

وهل تُحرقُ النارُ رجلاً مشت... إلى حرمٍ منهُ سامي القبابِ؟

وهل تُحرقُ النارُ قلباً أُذيب... بلوعةِ نيرانِ ذاك المصابِ؟

هنا نحن أمام صورة أخرى، ومعنى آخر، ومقدمة أخرى، تتحدث مصير الإنسان أمام ربه جل شأنه، وماذا عساه أن يفعل تجاه ذلك المصير، ليؤكد بأن أحد شفعائه عند الله هو الإمام الحسين ، وإن البكاء عليه وعلى مصابه الجلل يحط الذنوب وينزل رحمة وغفران الرب الكريم جل جلاله.

الخلاصة من هذه النماذج، وما ذكرنا قليلة جدا مما يحتويه الشعر الولائي، إذ أن هناك العديد من القصائد التي تحتوي على التمهيد بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن ثم يتم ربطها بقضية من قضايا أهل البيت، خصوصا مصيبة الإمام الحسين ، اكتفينا بذكر هذه النماذج لنخلص بأن هذه المصيبة تنطوي على قصة الحياة، فكل شيء في هذه الحياة يمكن أن يتصل بمعركة الحق والباطل، والخير والشر، وليس أجلى صورة وأوضح حالا من الذي جرى في كربلاء المقدسة، لذا فإن أي حديث عن أي شيء في هذه الدنيا، يمكن أن يتصل بكربلاء بصورة أو بأخرى، ففي كربلاء تجسدت كل معاني الرجولة والشجاعة والشهامة والمروءة والكرم والأخلاق والتواضع لدى الجيش الحسيني القليل في عدده العظيم في عدته وكيانه، كما تجسدت كل نقائضها في الجيش المعادي، ولا داعي لذكر التفاصيل فهي معروفة، ورد ذكرها في القصائد أعلاها

أليس الشعر الحسيني مدرسة في الأدب العربي؟!.