المتسامحون
إن للصفح والعفو والتسامح آثارًا عظيمة وكبيرة على الفرد بشكل خاص والمجتمع بشكل عام، فهو ذو أثر مثمر ثمرًا طيبًا للغاية، فكلما كان الأشخاص متسامحين برز المجتمع قويًا متماسكًا مزدهرًا نظيفًا وخاليًا من الأحقاد والضغائن والكراهية، وأنه يكسب رضا الله سبحانه وتعالى لا شك ويشعر صاحبه بالراحة والسكينة ويدفع المسيء لتجنب الإساءة في سائر خطوات حياته لما رآه من تجاوز وغفران عند الإقدام على أخطائه ومشاكساته التي لا تمت للعقلانية بصلة.
قال الله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133-134].
ومن المعروف أن التسامح خلق سامٍ يرتقي بالذات البشرية إلى سمو الرفعة وعالي الدرجات، ويشمل كذلك الحلم ولين الجانب ونبذ البغض والمقت والحسد، فهو المكون الأساس لبناء علاقات طيبة بين العامة من البشر بعضهم ببعض، وأحد العوامل المهمة للاندماج والتراحم المجتمعي، وهو لا يتعلق بجانب دون آخر ولا بالشخص وحده، بل يتجاوز ذلك بكثير ليشمل جوانب حياتنا اليومية بجميع تفاصيلها، ناهيك عن كل ما يتعلق بالفرد والجماعة على حد سواء.
ولهذا الأمر أوجه كثيرة يترتب عليها عدة أمور إيجابية، ومنها التواضع في علاقات الأفراد فيما بينهم وفي حياتهم بشكل عام، كتسامح الأب تجاه أبنائه فيما يصدر منهم من أخطاء، وكذلك تقاضي الزوجين لما يحدث بينهما من مواقف ومشاجرات، وتسامح الجار مع جيرانه، وتجاوز رب العمل تجاه مرؤوسيه بالتخفيف عليهم وغض البصر عن هفواتهم بما لا يتعارض بطبيعة الحال ومصلحة العمل، وكذلك المعلم مع طلابه ومعاملتهم بروح حانية والمسؤولية العالية، وقس على ذلك جميع المعاملات التي تحدث داخل إطار واقعنا المعاش.
نعم والتسامح يستخدم في مواضع جمة منها الاجتماعية، والثقافية، والدينية، بقصد الوصول لنتائج أكثر هدوءًا واحترامًا، وهناك ارتباط عميق بين الليونة والنقاش الإيجابي، فبالحوار المحترم يتحقق الارتقاء الفكري وتنمو القيم والمبادئ والأخلاق بين الأشخاص والتعاون فيما بينهم، إذ لا تقتصر الفائدة والحاجة للتواصل البناء على إنهاء الخلافات والنزاعات فقط، كما لا تقتصر على مستوى المجتمعات بل تتعدى المنفعة ذلك لتصل لمستوى الأمم والشعوب قاطبة، وبالتالي مقابلة السيئة بالحسنة مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34].
ومن هذا المنطلق تقوى روابط المحبة ويسود الاستقرار وتختفي العداوات وينتشر العدل وتعم الطمأنينة قلوب العامة من البشر، وعلى نقيض التسامح تتفشى الشناعة والعداوة والتنافر، وآثار ذلك وخيمة جدًا على الفرد والمجتمع بأسره، بل هي بذور الانهيار الحقيقي الذي يفتك بالأمن واللحمة الوطنية. وعليه فإن السلوك والآداب الإنسانية الفاضلة والتي من خلالها ينتج التآلف والتواد، وكل ما سبق هو صمام أمان والأساس لرسوخ الأمم والشعوب، ورقي البلدان، وهو لا شك عنوان أصيل في هويتها وسبب نهضتها وعزتها وكذلك شموخها واقتدارها.
ويجب العلم أن هذه الدنيا التي نعيشها أقصر بكثير من أن نقضيها في رصد الأخطاء والسلبيات التي يقدم عليها الآخرون في حقنا أو في تغذية روح العداء والكراهية بين الأفراد، فالتسامح هو المودة والهدوء والسعادة الحقيقية، فلا نرهق أنفسنا ولا نقدم على ضياع وقتنا بتوافه الأمور، التي لا نجني منها إلا الأمراض والمتاعب وخيبات الأمل، وتُحَمِّلُنا ما لا طاقة لنا به، فلنعش ولنخلق لحياتنا أجواءً مرحة سعيدة ملؤها الدفء والتمازج وبعيدة عن كل ما هو سلبي ومظلم وكل ما يعكر لحظات البهجة والفرح والسرور التي إن ذهبت فإنها لن تعود أبدًا بل سترحل معها صحتنا من غير عودة، لذا فلندرك جميعًا ما تبقى لنا من باقٍ.
وبحسب علماء النفس تشير الدراسات إلى أن زيادة التوتر وانخفاض مستوى الراحة النفسية وعدم الاطمئنان تُعَرِّضُنا لمتاعب صحية وبدنية ومعنوية، وبالمقابل فإن تطوير أسلوب السكينة بين الأشخاص يساعد لا ريب في تقليل الانفعالات والاضطرابات الشخصية بشكل كبير، وبالتالي سنظفر وسنصل في نهاية المطاف لمجتمع سليم صحي وواعٍ، وحياة مرضية جميلة هانئة بإذن الله.