على چم البامية؟!
يتعرّض الإنسان في حياته لكثير من المواقف التي تُضيف إلى رصيد تجاربه دروسًا قد لا توازيها قاعات الجامعات، ولا فصول المدارس أثرًا أو قيمة. ومع تراكم هذه الحصيلة، فإن منبرًا - إن أتيح له - قد يكون وسيلةً لبثّ ذلك المخزون، ولمنح المتلقي شيئًا يستحق أن يُتعلّم. الثروة المالية الضخمة قد تولد من فكرة، يلقيها مجرِّب في طيّات حديثه. التوبة والتقوى قد تسببها كلمة، كقول: ”لو كان عبدًا لأطاع مولاه“. اختيار تخصص جامعي مناسب قد يحتاج لحكاية عابرة من خبير، لا لمحاضرة طويلة مملة. هذا المتحدث، سواء كان خطيبًا، أو كاتبًا، أو مجرد رجل في مجلس، يصوغ فكرته، ويهذب عباراته، ويشحذ ذهنه، ثم يضع حديثه في قروب واتساب أو في مجلس عام، فإذا بأحدهم يأتي بعده متسائلًا: ”على چم البامية؟!“ وتتواصل الخيبة حينما ينال الحديث عن الباچة، نصيبًا أكبر من نصيب ما تقرّحت به يداه، وهو يكتب ما يظنه شيئًا يستحق التأمل، أو - في أدنى الأحوال - أن يكون أهم من المرقة والبيدجان!
كنتُ أستمع إلى تجربة أحدهم في الكتابة، يتحدث عن مفكرة بسيطة لا يخلو منها جيبه، يدون فيها ما يرى أنه يستحق أن يُكتب. ألهمني ذلك كثيرًا: أن لا يخلوا جيبي من ورقة أدون فيها فكرة سمعتها من هنا أو هناك. وكنتُ أستمع إلى فقيهٍ يقرأ الآية: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: آية 49]. فتعلمتُ منها محاسبة النفس قبل أن يحين الحساب. جدتي قالت لي يومًا: ”ما يقتل إلا الهم“، قبل أن أقرأ للفيلسوف كيركغور كلمته الخالدة: ”القلق يقتل الإنسان من الداخل“. هكذا، تمنحنا التجارب - حين نُصغي لها - أكثر مما تمنحه كتب بأكملها، فقط لو أنصتنا قليلًا لمتكلّمٍ مجرِّب.
تلك الكلمة… رصاصة الرحمة في رأس هذا المتكلم المُلهم. ومع ذلك، ربما يكون حديث البامية رسالة مبطّنة، تقول - دون تصريح - إنّ شيئًا مما قاله المتكلم لا يستحق أن يُعبأ به! وهكذا، بدلًا من أن يُطلب منه التزام الصمت، يُستبدل ذلك بسؤال عابر عن سعر البامية… فيخفت صوته أمام صخب حديث الخضار.
يقلب بعض العرب الكاف إلى CH, كما يقلب بعضهم القاف إلى جيم. فينطقون أداة الاستفهام «بكم؟» على هيئة: بچم؟ «بchم»، ويقولون عن القاسي: جاسي. وهكذا، حين يكتب أحدهم مقالًا طويلًا، ثم يكتب احدهم بعده كلمة: بچم البامية؟!، فإنه يشعر وكأن شخصًا امتلك من القسوة ما يستحق أن يُوصف في أشد الكلمات تهذيبا بـ الجاسي. هذا النموذج من عشاق البامية لا يقل خطرًا - في حقيقته - عن الانبعاثات النووية. فكما تستطيع تلك الانبعاثات أن تُهلك الحرث والنسل؛ يستطيع حديث البامية والبيدجان أن يُدخل كاتبًا في ريعان شبابه إلى مستشفى المجانين… بعد رحلةٍ مضنيةٍ مع القلم والكيبورد.