آخر تحديث: 29 / 7 / 2025م - 10:36 م

الفروق الفكرية بين التمييز والمناكفات

المهندس أمير الصالح *

تمهيد

”يُحكى أن طرق“ الخوف ”باب أحد البيوت، فنهضت“ الشجاعة ”لفتح الباب. وعندما فتحت“ الشجاعة ”الباب لم تجد أحدًا عند الباب“، يُنسب هذا القول للمفكر الألماني غوته. ومضمون القول أن الشجاعة الموضوعية عندما تواجه الخوف والتردد والبذاءة والإسفاف والتشكيك ولغة اللعب بالمفاهيم ستُجلي أمورًا عدة وتكنس العبث في روح الفكر الأصيل والإيمان والاطمئنان والأخلاق.

مقدمة

الأغلب الأعم من الناس، منذ الصغر، لعبوا لعبة ”أوجد الفروق السبعة في الصورتين“! البعض وظّف مهارة التمييز تلك في إيجاد الفروق لتشخيص العلل ومحاكاة التصاميم وتطوير الإبداع وصنع الأكثر كفاءة في حياته العملية والمهنية. وفي المقابل، ومع شديد الأسف، وظّف البعض الآخر تلك المهارة في صنع المقارنة البائسة وتسقيط الآخر أو التشنيع عليه أو الإساءة له أو الكيد له أو استفزازه أو التهجم عليه في معتقده وآرائه ورؤيته ووجهة نظره.

المناقشة

يعيش الأغلب من الناس في مجتمعات ذات مكونات مختلفة المذاهب وأحيانًا مختلفة الأديان، وعليه لا بد من فهم المحيط البشري وكشف المغالطات لخلق أكبر قدر من التفاهم ومنع أي اختراق لهذا أو ذاك المجتمع وإعلاء سور الوحدة بين أبنائه. أعرض أمثلة عن بعض المغالطات في بعض المفاهيم والفروق في بعض المجتمعات الإسلامية:

1- الفرق بين التقية والنفاق

التقية هي حالة اضطرارية قد يلجأ الشخص المؤمن بمعتقد صحيح بممارسة رخصة شرعية في إظهار خلاف ما يعتقده لدفع الضرر الجسيم عن نفسه إذا خاف على نفسه ودمه وعرضه أو ما شابه الضرر. ومنبع هذا الجواز والرخصة هو قول الله تعالى في القرآن الحكيم: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران -28]. إلا أن بعض الجهات التي لا تؤمن بهكذا تفسير للآية الكريمة، وفي بعض المناطق، أُلصقَتْ تهمة النفاق، وهي صفة مذمومة، بجماعة أو أتباع مدرسة فكرية معينة بهدف الكيد والتشنيع والتسقيط والمكايدة دون أي موضوعية وتأمل للآية القرآنية الكريمة. مع أن النية هي حفظ الأرواح وتجنب القلاقل والتعالي عن مصالح ضيقة صرفة واستقرار الأمن الاجتماعي. ومع أن سبب نزول الآية الكريمة معروف لدى جميع الأطراف، إلا أن الفجور في الخصومة المفرط بلغ لدى البعض حد معاندة الدليل القرآني أو حمل الآية على وجوه أخرى. قديمًا قيل على لسان صن تسو: ”الشجاع الحكيم هو من يتجنب المتاعب“.

النفاق هي عملية خداع انتهازي يتمظهر فيه المنافق بمظاهر عدة متناقضة مع قناعاته من أجل بلوغ مصالح وجني مكاسب مادية وغير مادية واستغلال مراكز وهدم ثوابت واختراق جُدُر وإحداث شِهرة وتبوؤ مناصب. أي أن النية حصد مصالح دنيوية صرفة.

أتمنى أن أكون وفقت في إظهار الفروق بين من يتقي شر الأشرار ليحافظ على روحه من منابع الأخطار، وبين من يتلون ويتملق للآخرين ليصل مبتغاه ثم يهدم ويستبد أو يُضل الآخرين ويفسد.

2- الفرق بين العلاقة الشرعية (النكاح) والعلاقة غير الشرعية (الزنا)

قال البعض من أصحاب المناكفات اللغوية والأفكار الشيطانية بأن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة تصنف بأنها اغتصاب أو اعتداء في حالة إذا ما كان أحد الأطراف غير راغب بها حتى لو كان زوجها، وما سوى ذلك فلا مانع منه كالمساكنة والارتواء العابر وبيوت المناطق الحمراء؛ لاغين ومتجاوزين بذلك مفهوم العلاقة الشرعية القائمة على الوضوح والإشهار وبذل المهر والتجهيز وحفظ الأنساب وطهارة الفروج والاستقرار والالتزام بتبعات ومسؤوليات تلك العلاقة من أبناء أو شروط أو حقوق أو تنازلات.

الزواج هو ارتباط وعلاقة بين رجل وامرأة ضمن إطار شرعي وصياغة قانونية ومعلوم الحدود والالتزامات والنفقة والمهر والمؤخر. قد يؤطره البعض ضمن اشتراطات تفصيلية متعددة ومتفاوتة أخرى كالتنازل عن حق المبيت أو توفير السكن أو إسقاط النفقة أو تحديد المدة أو تفادي الإنجاب أو إكمال دراسة أو مزاولة مهنة بظروف معينة أو تزويد أجهزة نقل واتصال محددة: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء -24]. وبذلك لا يحق لأي شخص يدعي الموضوعية والتقوى والإيمان التشهير بزواج المسيار، المسفار، المطيار، الويكند، المتعة؛ لكون قراءته الفقهية الدينية تختلف مع شخص آخر طالما مبناها مُستخلص من آية قرآنية ومبانٍ فقهية واضحة ولها مستند. فكما أعطيتَ لنفسك كمؤمن الحق في استنطاق الآيات وتوظيفها في هذا المجال، كذلك للآخرين نفس الحق. وإلا عُدَّ ذلك من أعمال وسنن استبداد فرعون كما ورد في القرآن الكريم: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى? وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر -29].

العلاقة الآثمة هي علاقة بين رجل وامرأة أحرار وعقلاء وبالغين ضمن لذة وشهوة ونزوة عابرة من دون أي مسوغ شرعي في نطاق أي تشريع، وبمقابل أو دون مقابل مالي/ منافع/ مصلحة. قد يؤطر البعض تلك العلاقة بأنها حرية فردية (حرية البهائم جنسيًا كما يسميها البعض) أو حرية قانونية مدنية (مساكنة)، وكل ذلك حتمًا سيولد هدم بناء الأنساب وهتك الأسر وانتشار الأمراض والرذيلة وهدم القيم واسترخاص العفة وامتهان الكرامة الإنسانية وضياع الأخلاق وكثرة أبناء الحرام. ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء -32] هو ما ورد في كتاب الله للتحذير من ذاك الفعل.

3- الفرق بين البيع والربا

البيع هو عقد يتم من خلال عملية مقايضة مال مقابل سلعة أو سلعة مقابل سلعة مغايرة بناء على تبادل منافع أو فرق في خدمة مضافة، وتتم بين طرفي العقد أو أطراف مختلفة.

الربا هي عقد يتم من خلال إجراء عملية تبادل سلع/ مال مقابل نفس المادة مع ضمان الزيادة وقت الاستحقاق الزمني المتفق عليه بين طرفي العقد. قال رب العالمين في كتابه الحكيم: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة -275]. وهذا التحريم في واقعه يخدم الناتج الاقتصادي المحلي لأي مجتمع؛ لأن تدوير المال في الصناعة والزراعة والخدمات يضيف قوة اقتصادية عبر خلق فرص عمل وفتح بيوت ونمو اقتصادي حقيقي؛ بينما تدوير المال بالمال عبر طباعة أوراق مالية (التسهيل الكمي) فإنه مع تقادم الأيام يؤدي إلى ضمور الصناعة وتقلص سوق العمل وتضخم الأسعار وإغلاق البيوت وزيادة البطالة وانهيار الأسر وزيادة الجريمة وكثرة أهل الرشوة وفقدان القوة الشرائية للعملات.

لا يحق للعاقل تعيير وتصغير شأن العاقل الآخر لكون تحليله المالي يتعارض مع الآخر لكونه يبني رؤيته على آية قرآنية. بل الحوار الهادف والسعي لإيجاد مساحة مشتركة هو الأولى لبناء مجتمع أقوى وأفضل.

4- الفرق بين الإرهاب والمقاومة

تخيل أن مصطلحًا مثل الإرهاب والمقاومة، والفصل بينهما، مازال شائكًا في أروقة محافل دولية بسبب تعارض المصالح وموازين القوى. لك أن تتخيل في بعض البقع يُنعت الذائد عن أرضه بأنه متصل بالإرهاب، وأن المدافع عن ماله بأنه مسبب للإزعاج!! بينما كل الدساتير والشرائع والأعراف تحث الإنسان على الدفاع عن نفسه وعرضه وأرضه وماله، وإن فاضت روحه في ذاك السبيل فإنها نالت وسامًا كبيرًا جدًا في موازين الله وموازين أهل القيم. الإعلام العالمي له ما له وحتمًا عنده مصطلحاته وصياغاته الفكرية، ولكن على الإنسان الواعي أن تكون مفاهيمه ورؤيته للحياة متجانسة مع ضميره الإيماني، وكونه مؤمنًا بالله والآخرة والحساب والعقاب، فلا بد أن يتمحص كل مفردة قبل أن يكون صدى لأبواق مشبوهة. فأبناء الوطن الواحد من المفترض أن يكونوا أقرب لبعضهم البعض من أي مواطن آخر من وطن آخر، طالما أن هناك بصيرة وروح تفاهم.

5- الفرق بين الوطنية والطائفية

أضحى البعض ينعت الآخرين بأنهم طائفيون لأنهم يريدون توظيف أهل الكفاءة وليس أهل القرابة أو أهل القرية الواحدة. وفي المقابل، هناك بعض ممن تسوّل له نفسه بأخذ الرشوة وخيانة الأمانة والاستئثار بالمناصب والمراتب، وفي نفس الوقت يتمترس خلف اسم الوطنية! مع شديد الأسف أن أمراضًا سلوكية نخرت في بعض المناطق إلى الحد الذي هدَّ وصدّع بناء مجتمعاتهم، وهم في غفلة من ذلك. وعلى كل إنسان شريف محب لأهله ووطنه أن يكون قلبًا وقالبًا موضوعيًا في إعطاء الفرص لأبناء وطنه لتستمر سفن بلدانهم مبحرة بسلام ودون أي ثقوب، فالجميع في نفس المركب.

6- الفرق بين الكرم والرياء

وجود كاميرا بجهاز الجوال في يد الأغلب من الناس أتاح فرصة للتسويق لذواتهم عبر توثيق ونشر صور أي عمل. والعمل الطيب، سواء إكرام ضيف أو التبرع ليتيم أو طبابة مريض أو زيارة مسن أو إهداء مال لعامل نظافة أو إعداد طعام لصائمين، ينشر على صفحات الإنستغرام والتيك توك، والله العالم بالنيات. إلا أن كثرة النشر والتأكيد على جانب أو جوانب محددة أثارت التساؤل عن المقاصد: هل هي ظاهرة كرم أو رياء ومزايدة؟

7- التدخل بشؤون الآخرين والاهتمام بهم

السؤال العام عن أحوال الآخرين بهدف الاطمئنان عليهم أمر محمود، ولكن السؤال عن تفاصيل أمورهم وشؤونهم، ثم التدخل فيها بهدف الفضول والتطفل، فإنه أمر منبوذ وقد يخلق تصادمًا وعداوة وتنافرًا. ولذا على المتحدث حسن اختيار الأسئلة التي تدل على الاهتمام وتفادي التدخل في شؤون الآخرين.

جمل اعتراضية:

جملة 1:

إن كنت تعتقد بأن الإعلام العالمي مهتم بأن يخبرك بالأحداث والمعلومات كما هي، فأنت مخطئ؛ الإعلام العالمي لا يعلمك الأمور كما هي عليه، وإنما يخبرك الخبر بطريقته وبما يريد هو أن يصيغ فكرك وقناعتك ليشكل وعيك. وعيك ودينك وتقواك وحفظك لثوابتك هي مسؤوليتك، فلا تجعل الضجيج الإعلامي العالمي ينسف موضوعيتك والنقد الفكري الأصيل لديك.

جملة 2:

هناك من يردد بأن الخلاف جزء من الحوار، ولكنه يبدأ الحوار معك بإسقاطك وإسقاط قناعاتك ويفرض عليك قناعاته على أنها هي الأساس في الحوار!

جملة 3:

الأوطان أمانة في أعناق أبنائه بكل أطيافهم، وعلى جميع الأطياف الانفتاح على بعضهم البعض وتفهمهم مفاهيم ومبانٍ أفكار الآخرين بموضوعية هي علامة من علامات التقوى والموضوعية وحفظ لحقوق الآخرين. في منطقة الشرق الأوسط حيث المواطن الساخنة، تلك الحقيقة الساطعة أعلنها بعض الإعلاميين بعدما أضاعوا وطنهم بعدما نشروا التحريض والكراهية ولغة الشتم والمناكفة في أماكن عدة في العالم.

جملة 4:

الكلمة مسؤولية أمام الله، وإن كان لا بد منها فلتكن بلسمًا في زمن الجراح ورحمة في زمن العنف وملهمة في زمن الضياع وتشجيعًا في زمن الخذلان.

جملة 5:

عقد النكاح بكل ألوانه مسؤولية، وسوء استغلال بعض الرجال وبعض النساء للعقد أمر مشين ومعيب في حقهم وليس في حق التشريع. فعقد أي زواج بأي عنوان يترتب على الطرفين تحمل مسؤولية كاملة، وليس العبث والاستغلال والمتاجرة والابتزاز والحيوانية.

- انتهت الجمل الاعتراضية -

أخطر ما في الإنسان هو قدرته على التشكل في أماكن عديدة، قدرته على أن يقف في طابور الملائكة، وأن يجلس في حانة الشيطان، وأن يتنقل بينهما كلما دارت به ذاته. فأهل الضمير الحي يعرفون الحق ويتبعون أهله، وأهل الباطل يعرفون الباطل ويغالطون الآخرين في صرفهم عن الحق.

ختامًا

جميعنا نعلم بأن أبناء آدم في هذه المعمورة انشطروا في الأفكار والعقائد والطقوس والممارسات وأنماط الحياة والملابس والأطعمة والأذواق. إلا أنه يهمنا من كل ذلك السلوك، فالدين المعاملة. ومن الصحيح أن أي شخص بذل جهده في البحث المضني عن الحقيقة الناصعة أن نعامله بكل أدب واحترام وتواضع طبقًا لمبدأ أصالة البراءة سواء الشرعية أو العقلية. وعلى كل عاقل من أي انتماء ألا يسمح للآخرين باللعب في عقله عبر المنطق المغلوط أو المغالطات اللفظية أو التمويه على حقائق المفاهيم أو اللعب بالعواطف.

العقل يُبنى بمفاهيم واضحة، وإذا فسد العقل فسد المعتقد وفسد السلوك… وقيل قديمًا: ”من يصلح الملح إذا الملح فسد؟!“. حين ينتهي كل شيء في هذه البسيطة (الأرض) ويُحقّ الله الحق، لن نتذكر أقوال أعداء الإنسانية، بل سنتذكر من خذل الحق ومن روّج له أو ساعد على نشر الباطل، ولو بعنوان المناكفة والنكاية أو الإمعان في التشفي أو الفجور في الخصومة أو الكراهية.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
حسين علي المحفوظ
17 / 7 / 2025م - 4:21 م
من أروع فقرات المقال كانت الإشارة إلى الإعلام العالمي وكيف يصيغ وعينا لا كما هو بل كما يريد.
2
علي يوسف آل درويش
17 / 7 / 2025م - 8:35 م
مقال راق في لغته وعميق في مضمونه. شدني فيه تركيزه على الفرق بين “التقية والنفاق”؛ إذ بين أن التقية حفظ للنفس تحت الضرورة بينما النفاق خديعة مصلحية. فتح نافذة لفهم لا يصنعه الجدل بل القراءة الهادئة.