عدد دانبار: حدود الدماغ البشري في بناء الروابط الاجتماعية
مع تزايد الترابط الاجتماعي بالاعتماد على الاتصال الرقمي يومًا بعد يوم، يبرز سؤال أساسي: إلى أي مدى يستطيع الدماغ البشري إدارة شبكة من العلاقات الاجتماعية المستقرة ذات المعنى؟ جاء الجواب على هذا السؤال في مطلع التسعينيات على يد عالم الأنثروبولوجيا البريطاني روبن دانبار، الذي صاغ مفهوم عدد دانبار (Dunbar’s Number). يشير هذا الرقم إلى الحد الأقصى لعدد الأفراد الذين يمكن للإنسان أن يقيم معهم علاقات اجتماعية مستقرة، وتُقدّر هذه الحدود غالبًا بـ 150 شخصًا.
تستند النظرية إلى أبحاث مقارنة أجراها دانبار حول حجم القشرة الدماغية لدى الرئيسيات، إذ لاحظ وجود علاقة طردية بين حجم القشرة المخية الحديثة (neocortex) وعدد الأفراد في المجموعات الاجتماعية المستقرة. عندما طبّق دانبار هذه العلاقة على البشر، توصل إلى أن قدرتهم على إدارة الشبكات الاجتماعية العميقة والمستقرة تتوافق مع عدد يقارب 150 فردًا.
يعبّر عدد دانبار عن قيد بيولوجي إدراكي ناتج عن حجم الدماغ البشري وتعقيداته، يحد من قدرة الأفراد على الاحتفاظ بعدد كبير من العلاقات الاجتماعية ذات المغزى. فالعلاقة هنا لا تعني مجرد المعرفة السطحية أو التفاعل العابر، بل تشمل معرفة كل فرد بمن هم بقية الأفراد في المجموعة، وفهم طبيعة علاقاتهم المتبادلة، ومستوى الثقة والتعاون بينهم.
تُظهر الدراسات على المجتمعات التقليدية — مثل القبائل أو مجموعات الصيادين والجامعين — أن أحجام هذه المجموعات غالبًا ما تقع ضمن نطاق عدد دانبار، بما يعزز مصداقية النظرية.
أحدثت فكرة عدد دانبار تأثيرًا عميقًا في عدة مجالات علمية:
1 - الأنثروبولوجيا وعلم الأحياء التطوري: وفرت النظرية تفسيرًا للعلاقة بين تطور حجم الدماغ البشري وقدرتنا على بناء مجتمعات كبيرة نسبيًا، مقارنة بالرئيسيات الأخرى.
2 - علم النفس الاجتماعي: ساعدت في توضيح طبيعة الروابط العاطفية والاجتماعية، وفهم حدود تكوين الصداقات العميقة والحفاظ عليها.
3 - علم الشبكات الاجتماعية: أضافت بعدًا بيولوجيًا إلى تحليل الشبكات الاجتماعية البشرية، وربطت البنية العصبية والهياكل الاجتماعية.
4 علم الاجتماع: فسرت كيفية تماسك المجتمعات الصغيرة ولماذا تتعرض الشبكات الاجتماعية الكبيرة لخطر الانقسام عندما تتجاوز حجمًا معينًا.
امتدت فكرة عدد دانبار إلى مجالات عملية مختلفة:
1 - إدارة الأعمال: تستخدم العديد من الشركات، مثل Gore-Tex, عدد دانبار لتصميم هياكلها التنظيمية. فهي تقيد حجم الوحدات إلى حوالي 150 موظفًا لتعزيز التعاون وتقليل الحاجة إلى البيروقراطية.
2- الجيش: كثير من الوحدات القتالية الأساسية حول العالم تتوافق في حجمها مع عدد دانبار، لضمان بقاء الروابط قوية بين الجنود، ما يعزز الثقة والفعالية القتالية.
3 - التخطيط الحضري: في تصميم الأحياء والمجتمعات السكنية، يُؤخذ عدد دانبار في الاعتبار لبناء بيئات تعزز التماسك الاجتماعي.
4 - وسائل التواصل الاجتماعي: مع صعود الإنترنت، أصبح عدد دانبار نقطة مرجعية لفهم حدود الشبكات الاجتماعية الرقمية، وقياس مدى استقرار العلاقات الافتراضية.
يرتبط عدد دانبار ارتباطًا وثيقًا بمجال الفيزياء الاجتماعية، الذي يحلل الأنماط الاجتماعية باستخدام النماذج الرياضية والإحصائية. يُعتبر عدد دانبار قيدًا أساسيًا في هذه النماذج، إذ يحدد الحجم الأقصى للمجموعة التي يمكنها الحفاظ على الترابط والتعاون دون الحاجة إلى هياكل رسمية معقدة. ويظهر تأثيره في محاكاة ديناميكيات الشبكات، انتشار الثقة، أو كيفية تدفق المعلومات بين الأفراد.
أدى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي إلى تغيير طبيعة التفاعلات البشرية ظاهريًا. فقد أصبح بإمكان الأفراد جمع آلاف ”الأصدقاء“ أو المتابعين، مما أوحى للبعض أن عدد دانبار قد فقد أهميته أو تجاوزه الزمن. لكن عند النظر بعمق، تكشف الدراسات أن القيود البيولوجية على العلاقات الاجتماعية ما زالت قائمة.
روبن دانبار نفسه، في أبحاث لاحقة، أشار إلى أن وسائل التواصل لم تلغِ الحدود الطبيعية للعلاقات المستقرة. فالإنسان قد يمتلك قائمة ضخمة من المعارف عبر فيسبوك أو تويتر، لكنه يخصص جهوده العاطفية ومعالجته الإدراكية لعدد صغير نسبيًا يطابق دوائر دانبار التقليدية:
1 - الدائرة الأعمق: 5 أشخاص يمثلون أقرب المقربين (العائلة أو أعز الأصدقاء).
2 - الدائرة المتوسطة: حوالي 15 شخصًا من الأصدقاء الجيدين الذين نثق بهم.
3 - الدائرة الأوسع: 50 شخصًا نتفاعل معهم بانتظام.
4 - الدائرة الكاملة: حتى 150 شخصًا يمثلون شبكة العلاقات المستقرة.
• فيسبوك (2011): حللت دراسة ملايين الحسابات، ووجدت أن معظم الأفراد لديهم مئات الأصدقاء على المنصة، لكن التفاعل النشط اقتصر على حوالي 150 شخصًا، ومعظم التفاعل العميق كان مع 10-15 شخصًا فقط.
• تويتر (2016): أظهرت الدراسات أن المستخدمين، رغم الآلاف من المتابعين، يحافظون على تفاعل نشط مع أقل من 150 شخصًا، ضمن حدود عدد دانبار.
• واتساب (2019): وجدت الدراسات أن المجموعات التي يشعر الأفراد بانتماء حقيقي لها نادرًا ما تتجاوز 150 عضوًا.
تخلق وسائل التواصل الاجتماعي وهمًا بوجود شبكة علاقات واسعة. إلا أن العلاقات العميقة القائمة على الثقة والدعم الفعلي ما زالت محكومة بعدد دانبار. فحتى لو زادت كمية المعارف، فإن النوعية — أي عمق العلاقة ومتانتها — لا تزال مقيدة بالحدود الطبيعية للدماغ البشري.
دانبار وصف وسائل التواصل بأنها ”مكبر صوت“ يعزز الحفاظ على العلاقات القائمة، لكنه لا يوسّع قدرتنا على إنشاء روابط عميقة جديدة خارج حدودنا البيولوجية.
رغم تأثيرها الواسع، تعرّضت نظرية عدد دانبار للانتقاد:
1 - التبسيط المفرط: اعتبر بعض الباحثين أن النظرية تقلل من شأن التنوع الثقافي والفروق الفردية والظروف الاقتصادية في بناء الشبكات الاجتماعية.
2 - غياب الحتمية: لاحظ النقاد وجود فروق واسعة بين الأفراد في القدرة على إدارة الشبكات الاجتماعية، ما يُضعف فكرة وجود ”رقم عالمي“ ينطبق على الجميع.
3 - عصر الرقمية: رأى البعض أن الوسائط الاجتماعية قد وسّعت قدرة الأفراد على الحفاظ على شبكات أكبر، وإن كان ذلك على حساب عمق العلاقة.
4 - ضعف الدعم التجريبي الحديث: أشارت بعض الأبحاث الجديدة إلى أن الحجم الفعلي للشبكات الاجتماعية المستقرة يختلف باختلاف السياقات، ولا ينطبق بدقة على جميع المجموعات البشرية.
في الختام، يكشف عدد دانبار عن جانب عميق في طبيعة الإنسان: رغم التطور التكنولوجي والاتصال الرقمي غير المحدود، تبقى عقولنا محكومة بقيود بيولوجية تنظم كيف نبني شبكاتنا الاجتماعية.
وسائل التواصل الاجتماعي زادت من سهولة الوصول إلى الآخرين، لكنها لم تلغِ الحاجة إلى الوقت والجهد لبناء علاقة عميقة. إنها تسهّل الحفاظ على الروابط القائمة لكنها لا توسع فعليًا حدود عدد دانبار. ولذلك، يظل هذا الرقم أداة مهمة لفهم بنية علاقاتنا، سواء في الحياة الواقعية أو عبر الشاشات.