ممنوع الوقوف
تلك العبارة التي نراها كثيرًا على جدران المنازل أو عند مداخل الشَّوارع، لم تعد مرتبطة فقط بالنِّظام المروري؛ بل أصبحت تعبيرًا عن حالة من التَّوتر الاجتماعي الصَّامت بين الجيران ومرتادي المساجد والحسينيات؛ فحين يهمُّ أحدنا بالصَّلاة أو حضور مجلس ديني، قد يقف بسيارته أمام أحد البيوت المجاورة، وهو يظن أنَّ ”المكان عام“ وأنَّ ”الوقوف مؤقت“؛ لكنَّه لا يدرك أنَّ صاحب المنزل يعيش شعورًا متكررًا بالإزعاج والضِّيق.
فهل من حقِّ الجيران أن يمنعوا النَّاس من الوقوف؟
وهل من واجب الزَّائر أن يبتعد حتَّى لو اضطر للمشي مسافة؟
وهل نقيس الأمر بمقياس القانون فقط، أم بالأخلاق والنيَّة؟
إنَّها قضيَّة يتجدد الجدل حولها كلّ موسم، ويصعب فيها أن تُرضي الطَّرفين؛ وعلى الرَّغم من بساطة المشهد ظاهريًا، إلَّا أنَّ الواقع أكثر تعقيدًا؛ فموضوع ”الوقوف المؤقت“ أمام منازل السُّكان القريبة من المساجد والمجالس الدِّينيَّة، لا يزال محل شد وجذب؛ فالزَّائر لا يريد الابتعاد كثيرًا عن مكان نزوله، وربما يظن أنَّ وجهته ”عبادة“ تخفف عنه مسؤوليَّة الوقوف النظامي. وفي المقابل، يرى بعض الجيران أنَّ التكرار اليومي يسبب لهم إزعاجًا مستمرًا، حتَّى لو لم تُغلق مداخل بيوتهم.
ونُذكّر هنا أنَّ الحديث لا يشمل الوقوف أمام الكراجات، فهذه مسألة محسومة لا جدال فيها؛ وإنَّما نتحدَّث عن الوقوف المؤقت أمام المنزل من دون إعاقة مباشرة.
لكن هل يحق لجار المسجد أو المجلس الدِّيني أن يضع لوحات منع الوقوف، أو أن يُخيف الزَّائرين بكلمات قاسية؟
هل المنزل امتداد للشَّارع؟
أم أنَّ الشَّارع ملك عام لا يُخصّص؟
الجواب القانوني قد يختلف عن الجواب الأخلاقي؛ فمن ناحية الأنظمة، لا يجوز لأي شخص أن يمنع الآخرين من استخدام شارع عام طالما لم يخالفوا القوانين.
وأمَّا أخلاقيًا، فالمطلوب من الزَّائر أن يراعي خصوصيَّة السُّكان، ومن الجار أن يتحلَّى بالتَّسامح، خصوصًا إذا كانت المناسبة دينيَّة.
الاحترام المتبادل هو أساس الحل: وأن يتفهم القادم إلى المسجد أو المجلس الدِّيني أنَّ هذه منازل أناس لهم خصوصيتهم، وأن يدرك صاحب المنزل أنَّ الوقوف دقائق لأجل طاعة، قد تكون صدقة جارية له، لا عبئًا عليه. كذلك، الصَّبر في مثل هذه المواقف ليس ضعفًا؛ بل هو بناءٌ داخليٌّ للأخلاق؛ فحين يضبط الزَّائر نفسه ويختار مكانًا بعيدًا على الرغم من التَّعب، فإنه يُربِّي نفسه على احترام الآخرين، ويزرع في قلبه الإيثار، وهو جوهر كثير من القيم الدِّينيَّة.
وحين يتحمل صاحب المنزل وقوف سيارة أمام بيته - وهو يعلم أنَّ الأمر مؤقت ولغرض عبادي - فإنَّه يُهذِّب قلبه على التَّسامح، ويتمرَّن على الحِلم، وهي صفة لا يقدر عليها إلَّا الأقوياء في نفوسهم. وبهذا النَّوع من الصَّبر المتبادل، تتحوَّل الأحياء إلى مجتمعات فاضلة، لا تضجّ بسبب موقف سيارة، والأكثر من ذلك أنَّها تُنتج علاقات قائمة على الاحترام والتَّقدير، ويشعر كلُّ طرف أنَّ الآخر شريك في الخير، لا خصمًا في الطَّريق.
وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه التربيَّة العمليَّة للأخلاق، التي تبدأ من موقف بسيط؛ لكنها تُثمر أثرًا كبيرًا على مستوى الوعي والسلوك الجمعي.
ومن المهم أن يتوقف صاحب المنزل لحظة، ويتأمل في الرسائل التي يرسلها للناس من حوله، خاصة حين يُعلّق لوحة ”ممنوع الوقوف“ بشكل دائم أمام منزله، حتَّى وإن لم يكن هناك كراج.
ماذا سيُقال عنك؟ وكيف سيراها مرتادو المسجد أو المجلس الدِّيني؟
هل ستبدو كشخص متضايق من الطَّاعة؟ كمن يتمنَّى أن يقلَّ حضور النَّاس؟
وماذا عن علاقتك بجيرانك والمصلين؟ هل ستُبنى على التَّفاهم أم على التَّوتر؟
قد لا يقصد صاحب المنزل الإساءة؛ لكنه حين يختار التَّعبير الحاد بدلًا من التَّفاهم الهادئ، فإنَّه يُحدث شرخًا في العلاقة مع محيطه، وقد يخسر ودًّا اجتماعيًا يصعب ترميمه لاحقًا.
لكن بين حسن النيَّة وسوء الفعل مسافة، قد تترك أثرًا عكسيًا من دون قصد.
بينما كلمة طيِّبة، أو سعة صدر، أو حتَّى لفتة بسيطة كقول: ”ما دام ما فيه إزعاج... حياكم الله“، قد تزرع احترامًا لا يُنسى، وتُصبح خلقًا يُحتذى.
وفي المقابل، لا بدَّ من مخاطبة صاحب السيارة أيضًا، بلطف ووضوح:
إذا علمت أنَّ صاحب المنزل لا يرغب بالوقوف أمام بيته، وأظهر لك ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، فلماذا الإصرار؟
ولماذا تخلق لنفسك عداوة لا داعي لها، بينما يمكنك تجاوز هذه النقطة بخطوتين إضافيتين، تحفظ بهما احترامك وارتياح الآخر؟
النيَّة الطيِّبة لا تكفي إن لم تُترجم إلى مراعاة، والتَّدين الحقيقي لا يظهر فقط في المساجد؛ بل في تعاملنا مع النَّاس في الطَّريق.
في نهاية المطاف، لسنا أمام مشكلة مواقف بقدر ما نحن أمام اختبار يومي لأخلاقنا وسعة صدورنا؛ فالمساجد والمجالس الدِّينيَّة تُربِّي الأرواح، وينبغي أن ينعكس ذلك في تصرفاتنا خارجها.
إنَّ الاحترام لا يُفرض؛ وإنَّما يُكسب بالحلم والتَّفهم، والتَّعايش لا يُبنى بالعناد؛ بل بحسن الظن. فلنحرص على أن نبقي علاقتنا المجتمعية نقية، قائمة على التقدير لا التوتر؛ فبمثل هذه التَّفاصيل الصَّغيرة، تُبنى المجتمعات الراقيَّة وتُصان كرامة الجميع.