القابض على جهله كالقابض على الجمر
في زمنٍ أصبحت فيه المعرفة متاحة، والأبواب إليها مشرعة، غدا الجهل خيارًا حرًّا لا يُعذر به أحد. لم يعد الباحث بحاجة إلى سلالم يتسلّق بها رفوف المكتبات بحثًا عن كتاب، ولا إلى تذاكر سفر يجوب بها البلدان طلبًا لعلمٍ عصيّ المنال. اليوم، يكفي أن تسأل لتُجاب، وأن تبحث لتُدرك. نعم، صحيح أن وسائل التضليل كثُرت، وأن أدوات التزييف تنوّعت، لكن بقيت أدوات المعرفة أوفر وأيسر منالًا. ولهذا، فإن من يُصرّ على الجهل في هذا العصر، كمن يقبض على جمرةٍ مشتعلة بإرادته الكاملة، وبكامل إصراره. لقد بات العالم بين يديك. وأنت - أيها القارئ الكريم - وحدك من يقرر أيّ طريقٍ تسلك: طريق النور، أم دروب الظلمة والغفلة. وإن اخترت الغفلة، فقد اخترت الطريق الأصعب، لأن طرق العلم اليوم أوضح من أن تغيب عن بصر أعمى، فكيف ببصير؟
إدراك أن ارتقاء الإنسان لا يكون إلا بالعلم والسلوك الصالح، يجعل التمسك بالجهل ضربًا من الانحدار الواعي. ومع أن هذا أمرٌ لا ينكره عقل، إلا أن بعض الناس يتحفّظون على التعلّم، بدعوى أن منابره ليست نقيّة، وأن فيها من يُزيّف بقدر ما يُعلّم. وهذا ما يدفع بعضهم إلى تبرير جهلهم، لا باعتباره رفضًا للعلم، بل حذرًا من الزيف. لكن هذه الحجة، وإن بدت منطقية، فهي في جوهرها مغالطة خطيرة. لأن الحذر من التضليل ينبغي أن يقود إلى التحقّق والتمحيص، لا إلى الجمود والانكماش. والتمييز بين الحق والباطل - في هذا العصر - أيسر من أي وقتٍ مضى. المصادر الموثوقة متوفرة، وأهل الاختصاص في كل علمٍ يمكن الرجوع إليهم، وسُبل التحقق مفتوحة لكل راغب.
إن هذا الجيل، والأجيال التي تليه، تعيش نعمة عظيمة، تتمثل في سهولة طلب العلم، ويُسر الوصول إليه. وقد قيل: ”لو علم الأغنياء لذة طلب العلم، لنازعوا الفقراء عليه.“
فالعلم هو السلم الحقيقي نحو الكمال، وهو الفرق بين الإنسان وأمسِه. وقد ورد: ”من تساوى يوماه فهو مغبون.“
فالغُبن الحقيقي ليس أن لا تعلم، بل أن تمرّ بك الأيام، وأنت قادرٌ على الارتقاء، فتختار الوقوف على قارعة الجهل. وبينما يسير الناس إلى أبواب المعرفة، تبقى فئة منهم تقبض على جهلها كالقابض على الجمر، لا لأنه فُرض عليها، بل لأنها اختارته بملء إرادتها.