”الإنسان أولاً“: نحو اقتصاد سليم يُبنى على الصحة والبيئة
في عالم تشتد فيه الأزمات وتتعقّد فيه المعادلات الاقتصادية والاجتماعية، تبرز حقيقة واضحة لا جدال فيها: لا يمكن بناء اقتصاد قوي دون إنسان سليم، ولا يمكن الحفاظ على هذا الإنسان دون بيئة نظيفة وصحة مستدامة.
من هنا، تتبلور رؤية وطنية شاملة: أن نكون عند مستوى المسؤولية، كمواطنين ومؤسسات، في صناعة مستقبل أفضل، أساسه الإنسان، وصحته، وبيئته. هذه ليست شعارات، بل مفاتيح حضارية لدول أدركت أن الثروة البشرية هي الثروة الحقيقية.
غالبًا ما تنشغل المجتمعات في سباق استهلاكي لا ينتهي، تلاحق فيه الماديات والمظاهر، وتنسى أن الأساس هو الإنسان. إن الاستثمار في التعليم، والرعاية الصحية، والتغذية، والصحة النفسية، لا يقل أهمية عن بناء المصانع وتشييد الأبراج. بل هو ما يمنح هذه الإنجازات قيمتها ودوامها.
كل فرد واعٍ، متعلم، سليم الجسد والعقل، هو عامل فاعل في نمو الدولة، ومحرّك حقيقي للاقتصاد.
لا يمكن للدولة وحدها أن تنهض ما لم يشارك المواطن في تحمّل مسؤولياته. فالحفاظ على الصحة العامة، والتقيّد بأنظمة النظافة والسلامة، واحترام القوانين البيئية، ليس تفضّلاً بل واجبًا وطنيًا.
والدولة بدورها، مطالبة بوضع سياسات صحية وبيئية صارمة، وفرض رقابة فعّالة على كل ما يهدّد الإنسان، من غذاء ملوث، أو تلوّث صناعي، أو سوء إدارة للموارد.
كثيرون يرون الإنفاق على الصحة ”كلفة“، بينما هو في حقيقته ”استثمار طويل المدى“. فكل ريال يُنفق على الوقاية يُغني عن عشرات تُنفق على العلاج.
دول مثل كندا وألمانيا تعتبر الصحة جزءاً من أمنها القومي. وتُخصّص ميزانيات ضخمة للرعاية الأولية، وتشجّع نمط الحياة الصحي، وتربط بين جودة الصحة والإنتاجية الوطنية.
وفي اليابان، تقوم الشركات الكبرى بإدراج برامج الصحة النفسية والبدنية ضمن عقود العمل، لأنها تعلم أن الموظف السليم يُنتج أكثر، ويُكلف أقل.
نحن لا نعيش بمعزل عن بيئتنا. الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والغذاء الذي نأكله، كلها نتائج مباشرة لجودة البيئة المحيطة بنا. ومن هنا، فإن الإضرار بالبيئة هو إضرار مباشر بالاقتصاد، وبصحة الإنسان، وباستقرار المجتمعات.
الدول المتقدمة لم تصل إلى ما هي عليه عبثًا. في السويد وهولندا، تم فرض ضرائب بيئية عالية على الصناعات الملوثة، وأُجبرت الشركات على التحول إلى الطاقة النظيفة، وعلى تبنّي خطط واضحة لإعادة التدوير وتقليل النفايات.
هذه الدول اليوم تجني ثمار سياساتها الذكية: هواء أنقى، أمراض أقل، تكلفة علاجية أقل، وجودة حياة أعلى.
لكي نبني اقتصادًا سليمًا ومتوازنًا، نحتاج إلى خارطة طريق واضحة، ترتكز على:
• تعزيز الوعي الصحي والبيئي لدى المواطن منذ الصغر عبر المناهج التعليمية والإعلام.
• الاستثمار في البنية التحتية الصحية وخاصة في الرعاية الوقائية.
• فرض أنظمة رقابة صارمة على التلوث الغذائي والصناعي.
• تشجيع الشركات على تبنّي ممارسات صديقة للبيئة.
• وضع سياسات تحفز الابتكار في مجالات الصحة والبيئة، مثل الطاقة النظيفة، وإعادة التدوير، والزراعة الذكية.
الاستثمار في الإنسان ليس مشروعاً تنموياً فقط، بل هو التزام أخلاقي وحضاري. لا نريد مجرد أرقام ونمو اقتصادي هشّ، بل نريد مجتمعًا قويًا، صحياً، بيئيًا، وإنسانيًا.
دعونا نكون عند مستوى المسؤولية. نبني اقتصادًا لا يُنهك الإنسان بل يدعمه، لا يدمّر البيئة بل يحميها، ولا ينظر إلى المواطن كرقم، بل كأغلى رأسمال تملكه الدولة.