آخر تحديث: 30 / 7 / 2025م - 3:00 ص

«إحسان».. اسم على مسمى.. أفجعتنا برحيلك!

الشيخ سمير آل ربح

يشاء الله أن يختاره إليه في ليلة مصاب الحسين بن علي «عليهما السلام».. ليلة عاشوراء، ولمَّا تجف دموعُه عليه وعلى أهل بيته وأصحابه. عن أبي جعفر ، قال: كان علي بن الحسين «عليهما السلام» يقول: ”أيما مؤمن دمعتْ عيناه لقتل الحسين بن علي «عليهما السلام» دمعة حتى تسيلَ على خدِّه بوَّأه الله بها في الجنة غرفًا يسكنها أحقابًا...“. [كامل الزيارات، ابن قولويه، ص 201].

هذه هي خاتمة الحاج إحسان العلي أبي رضا عن الدنيا، وهذا هو الثواب الذي سيناله، بإذن الله تعالى، كما جاء على لسان سليل النبوة ومعدن الرسالة زين العابدين «صلوات الله عليه»، ونِعم الخاتمة؛ فكيف كانت بداياته؟

عرفته منذ نحو أربعة عقود، سرعان ما تحوَّلت هذه المعرفة إلى صحبة طويلة بقيت - بحمد الله تعالى - إلى حين رحيله. كانت معرفة روحانية؛ كيف لا تكون كذلك وشرف المكان هو الأرضية الرصينة التي التقينا عليها. إنها بقعة من بقاع الجنة ضمَّت الجسد الطَّاهر للإمام الهُمام علي بن موسى الرضا «عليه آلاف التحية والثناء». قال «الإمام الرضا»: ”إن بخراسان لبقعةٌ يأتي عليها زمانٌ تصير مختلف الملائكة، ولا يزال فوج ينزل من السماء وفوج يصعد إلى أن ينفخ في الصور، فقيل له: يا بن رسول الله، وأي بقعة هذه؟ قال: هي بأرض طوس، وهي - واللهِ - روضةٌ من رياض الجنة. من زارني في تلك البقعة كان كمن زار رسول الله ﷺ، وكتب الله تعالى له ثواب ألف حجة مبرورة وألف عمرة مقبولة، وكنت أنا وآبائي شفعاءَه يوم القيامة“. [عيون أخبار الرضا ، الشيخ الصدوق، 1/ 286].

اسمح لي أبا رضا، أن أخاطبك مباشرة، وأتحدث عنك - كما رأيتُك - بضمير المخاطب، لا بضمير الغائب؛ لأنك كنتَ حاضرًا في وسطي، بل في أوساطنا، لم تَغب عنَّا.. كنتَ حاضرًا طيلة هذه السنين بجسدك وبروحك وبعذوبتك وبمرحك وبابتسامتك وبلسانك الطَّلِق الذَّلِق. وأنت اليوم، وإن غبتَ عنَّا بجسدك الذي وظَّفته في طاعة الله، لكنك حاضر بكل ما ذكرتُه فيك.

في هذا الجوار الطاهر سلكتَ، منذ نعومة أظفارك، طريقًا تطلب فيه عِلْمَ آل محمد «صلوات الله عليهم»، وبقيتَ زمنًا تغترف من معينهم. قال رسول الله ﷺ: ”من سلك طريقًا يطلب فيه عِلمًا، سلك الله به طريقًا إلى الجنة“ [الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 116]. ثم أحببتَ العلماءَ وصحبتَهم وجلستَ مجالسهم. تحضر عندهم وتستمع إلى محاضراتهم وتنقل كلماتهم وترسل إفاداتهم.

منذ أن بدأنا العلاقة الإيمانية، كنت أرى ملامح وجهك المشرقة، لا تلتقي بأحد من أقاربك ومن أصحابك بل من عموم الناس إلا بالإقبال عليه، تلمع فيه عيناك، ويقطر فيه لسانُك عسلًا وشَهدًا، وتنبسط شفتاك التي تشع بابتسامة تدخل في قلب من تراه. عن أمير المؤمنين : ”البشاشة حبالة المودة“. [شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 18/ 97]. كان حُسن اللقاء بمن تراه هو ديدنك. تُشفِع هذه البشاشة بكلمات الترحيب واللطف والتودد. ومع كثرة تواصلي بك إن كان حضوريًا أو عبر الأثير، فلا أحفظ عليك ولا كلمة واحدة «نابية»، معاذ الله. كلها كلمات طيبة يتردَّد صداها في روحي؛ مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا . [سورة إبراهيم: 24.25]. هذه الصورة انطبعت في ذهني عنك؛ فلا تفارقني، مع أنك فارقتنا بجسدك، لكن تبقى صورة بل صور ذهنية، أراها فيك، وكأنك حاضر معنا. أنَّى لي أن أنتزعها من روحي، وروحي التفت بروحك واجتمعت بها على الإيمان والولاية؛ ف ”الأرواحُ جنودٌ مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف“ [بحار الأنوار، العلامة المجلسي، 58/ 79]. لم أختلف معك منذ عرفتُك؛ لأن روحَينا تعارفت هناك في ذلك العالم، لتواصل معرفتها في هذا العالم.. عالم الدنيا، لكنك سبقتني للعالم الآخر. ذهبتُ إليك عند قبرك ساكبًا عَبرتي عليك.. على فراقك، تاليًا لآياتٍ من الذكر الحكيم على روحك، داعيًا لك بالقبول وبالمغفرة وبالرضوان، متحدثًا إليك؛ لأني أعلم علم اليقين بأنك تسمعني، لكني لا أسمعك، طالبًا منك الشفاعة عند ربك، لتبقى هذه المعرفة متصلة من عالم الذر إلى عالم الآخرة الخالد مرورًا بعالم الدنيا الفاني. عن أبي جعفر الباقر : ”وإن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر“. [بحار الأنوار، العلامة المجلسي، 8/ 38].

كان ديدنك التواصل والسؤال. إن غفلتُ عنك ذكَّرتني باتصال تسأل فيه عن الحال. كم غمرتنا بكرمك! ولا أنسى ذلك اليوم الذي جئناك فيه إلى متجرك «العلي للتكييف» وكان الوقت مغربًا، أدَّينا الصلاة عندك، وحينما ههمنا بالانصراف لم تأذَن لنا إلا بعد إصرار كبير وبعد علمك بأننا مرتبطون مع صديق آخر على العشاء.. ومع ذلك كله أبيتَ إلا أن تملأ سيارتنا بما أسميته بـ «نِقصة».. هذه النِقصة لم تكن نِقصة، بل كرم حاتمي وروح كبيرة، ملأتَ بها السيارة رُطبًا وليمونًا، وكان الوقت صيفًا، مثل هذه الأيام. وحينما أقول: ملأتَ.. فأنا أقصدها بلا مبالغة. وحينما ذهبنا إلى مجلس عزائِك كنَّا نتوقع أن تستقبلنا ببشاشتك وابتسامتك المعهودة، لكن هذه المرة لم تفعلها، فعادت معها أفئدتنا بك مكسورة!

كنتَ بارًّا بوالديك، ذاكرًا لأرحامك، بل تذكِّرنا بأن نتواصل مع من فارقنا عن هذه الدنيا، فنذكرهم بدعاء وبصدقة وبعمل صالح، في رسالة أسبوعية لا تمل من إرسالها كل ليلة جمعة تنص عليها بقولك: ”لنا أحبة.. غادرونا إلى العالم الآخر، كانوا جزءًا من حياتنا، لهم فضل علينا، هم بحاجة للقليل من الخيرات: الصدقة، القرآن الكريم، زيارة الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام»، الصلاة على محمد وآل محمد“؛ وحقٌّ لك علينا أن نذكرك في أعمالنا الصالحة، كما كنتَ تذكِّرنا بها.

وفي مساء كل خميس ترسل لنا تذكيرًا بفضل الصلاة على محمد وآل محمد بنص هذه الرواية الشريفة: ”بسند صحيح عَن الإمام جعفر الصَّادق عليه‌ الصلاة والسلام قال: إِذا كانَ عصر الخميس نزل من السَّماء ملائكة في أيديهم أقلام الذّهب وَقراطيس الفضَّة، لا يكتبون إلى ليلة السَّبت إِلَّا الصَّلاة على مُحَمَّدٍ وآل مُحَمَّدٍ“. وعند الزوال من كل يوم جمعة تُرسل نصوصًا مروية وأدعية مأثورة منها دعاء يوم الجمعة، حتى إني هاتفتُك يومَ جمعةٍ شاكرًا لك هذا الصنيع الجميل، قائلًا لك: إني أحرص على قراءة هذه الأدعية التي ترسلها من جوالي؛ فلا حجة لي «ولأمثالي» في أن نغفل عنها ربما لأن كتاب «مفاتيح الجنان» بعيدًا عنَّا، فها هي بين يدينا، وكأنك تُلقي الحجة علينا في ألَّا ننسى ذكر الله وفضل الصلوات على محمد وآل محمد.

عشتَ محبًا لمحمد وآل محمد «صلوات الله عليهم» متوليًا لهم. ترجمتَ هذا الحب وهذا الولاء إلى سلوك تؤدِّيه. لم تكتفِ بالمحبة القلبية، بل اتبعتَه بما يدلُّ عليه. لم تكن مدعيًا بالمحبة دونما تجسيد على أرض الواقع. كنتَ تزورهم كلما سنحتَ لك الفرصة، وتحضر مجالسهم، بل تقيمها إحياءً لأمرهم. عن أبي عبد الله قال لفضيل: تجلسون وتحدثون؟ قال: نعم جعلت فداك. قال: إن تلك المجالس أحبها؛ فأحيوا أمرنا يا فضيل! فرحم اللهُ مَنْ أحيا أمرنا، يا فضيل مَنْ ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثلُ جناحِ الذُّباب غفر اللهُ له ذنوبَه ولو كانت أكثر من زبد البحر". [بحار الأنوار، العلامة المجلسي، 44/ 282]. كنت تقيم المجالس إحياء لأمرهم «صلوات الله عليهم»؛ إذ كان لديك مجلسًا أسبوعيًا تعقده طيلة العام، وتحيي المناسبات الخاصة بهم، ومنها عاشوراء الحسين، وانتقلت عن هذه الدنيا وأنت تقيمها وتحييها بالبكاء والإبكاء وإحضار الخطيب وإعداد المكان وتهيئة الطعام واستقبال المعزين والتكفل بمصاريف المجلس؛ ولذلك لا غروَ أن تكون خاتمة حياتك في هذه المجالس.

أكان صدفة أن ترجع روحك الطيبة إلى بارئها بعد إحيائه لليلة عاشوراء؟! أكان اتفاقًا أن تبكي الحسين وتلطم صدرك، وتلبس السواد حزنًا عليه، ثم يأخذك الحسين إليه في ذكرى استشهاده؟!

أكان عجبًا أن تكون آخر سفراتك سفرًا إلى الرضا ؟ إن الخاتمة الحسنة تحدِّدها المسيرة الطيبة، وهذا هو الصادق جعفر بن محمد يروي عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين علي قال: قال رسول الله ﷺ: ”سيدفن بضعة مني بأرض خراسان لا يزورها مؤمنٌ إلا أوجب الله عز وجل له الجنة وحرَّم جسده على النار“. [عيون أخبار الرضا ، الشيخ الصدوق، 1/ 286]. وها أنت - أخانا أبا رضا - تزوره حبًّا وشوقًا وولاءً. هذا الحب كان يتقاطر على لسانك وأنت تحدثني في اتصالك الأخير معي قبيل أيام من رحيلك، تحدثني عن هذا الشرف العظيم الذي وُفِّقتَ إليه. كنتَ تتحدث لي عن تفاصيل التفاصيل في مكالمةٍ استغرقت زهاء عشرين دقيقة، وكانت هذه آخر مكالمة أسمع فيك صوتك، وكلماتك يتردَّد صداها في روحي. وإني أسأل تعالى، بهذه الزيارة، أن يوجب لك الجنة، وأن يحرِّم جسدك على النار.

اللهم إني أشهد لأخينا إحسان العلي أبي رضا بهذه الشهادة، من دون محاباة ولا مبالغة، ولعل من يقرأ كلماتي هذه من أهله وأصدقائه ومحبيه ومعارفه، يتفق معي في ذلك، لأنه شهدها وعرفها منه، بل شهد أكثر منها ممن كان يعرفه عنه وغاب عني. ”اللهم إنا لا نعلم منه إلا خيرًا وأنت أعلم به منا، اللهم إن كان محسنًا فزد في إحسانه إحسانًا وإن كان مسيئًا فتجاوز عنه، واغفر لنا وله، اللهم احشره مع من كان يتولاه ويحبه، وأبعده ممن يتبرأه ويبغضه، اللهم ألحقه بنبيك، وعرَّف بينه وبينه، وارحمنا إذا توفيتنا يا إله العالمين“ [بحار الأنوار، العلامة المجلسي، 78/ 352]. يشهد معي هذه الشهادة من عرفه. عن أبي عبد الله قال: إذا حضر الميت أربعون رجلًا فقالوا: اللهم إنا لا نعلم منه إلا خيرًا. قال الله عز وجل: قد قبلتُ شهادتكم، وغفرتُ له ما علمت مما لا تعلمون". [الكافي، الشيخ الكليني، 3/ 254].

والحمد لله رب العالمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
أبو مجيب
14 / 7 / 2025م - 10:01 م
رحمك الله يا ابا رضا وحشرك مع محمد وال محمد
2
زكريا أبو سرير
[ تاروت ]: 15 / 7 / 2025م - 1:01 ص
رحمه الله برحمته الواسعة وحشره مع محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين والفاتحة المباركة على روحه الطاهرة، وعظم الله أجوركم والهمكم الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون