الشِّفْتْ رابِص
تطرّقتُ في مقالتي السابقة «اسقونيها ولو كان فيها حتفي» [1] إلى تلك العبارة التي شكّلت إشارة ضمنية ذكية، أو بالأحرى ”شفرة سرية“، استخدمها هانئ بن عروة تلميحًا خفيًّا إلى مسلم بن عقيل؛ دعوةً صامتة لاغتنام الفرصة والقضاء على عبيد الله بن زياد أثناء زيارته له في مرضه.
غير أن مسلمًا، رغم إدراكه لرمزية الموقف، امتنع عن الإقدام، في تصرّف يثير كثيرًا من التأمل؛ إذ يجلو مبدأً أخلاقيًّا ساميًا، يتجاوز حسابات اللحظة، ويقدّم أنموذجًا نادرًا من الانضباط والورع في لحظةٍ تنازع فيها الحزم والتردّد، واحتدم فيها الصراع بين العقل والغريزة.
وجريًا على السياق، أتذكّر ”الشفرة السرية الشعرية“ التي استخدمها الزير سالم، المهلهل بن ربيعة، في قصته الشهيرة. فقد كان أحد أبرز فرسان العرب في الجاهلية، وصاحب حرب البسوس التي دامت أربعين عامًا ثأرًا لأخيه كليب.
في أواخر حياته، وبعد أن كبِر سنّه واعتزل القتال، خرج المهلهل في رحلةٍ بصحبة عبدين من عبيده. وأثناء الطريق، طمعا بما كان معه من مالٍ ومتاع، فقرّرا قتله. شعر المهلهل بنيّتهما، وأدرك دنوّ أجله، فطلب منهما - بهدوء العارف بالمصير - أن يبلّغا عنه بيتًا من الشعر إن عادا إلى قومه، وقال:
من مُبلِغُ الحيَّينِ أنَّ مُهلهلًا
للهِ دَرُّكما ودرُّ أبيكما
ثم قُتل، ودفنه العبدان في الصحراء، وعادا إلى الحيّ مدّعيَين أنه مات ميتةً طبيعية، وأنه أوصاهما ببيت الشعر هذا.
لكن حين سمعت اليمامة، ابنة أخيه، البيت، استغربت نقصه، وكانت فطنةً شاعرة، فقالت: ”إن عمّي لا يقول بيتًا ناقصًا“، وأكملته قائلة:
من مُبلِغُ الحيَّينِ أنَّ مُهلهلًا
أضحى قتيلاً في الفلاةِ مُجندلًا
للهِ دَرُّكما ودرُّ أبيكما
لا يبرحِ العبدانِ حتى يُقتلا
فانكشف القاتلان، ونُفّذ فيهما القصاص.
وكنتُ أظن أن ”الشفرة السرية“ حكرٌ على عالم الجاسوسية والاغتيالات، حتى وجدتُ أننا نمارسها ببراعة في حياتنا اليومية، دون أن نشعر بذلك. فمثلًا، لدينا في الأحساء عبارات متداولة من قبيل: ”لا توهّص... الشِّفْتْ رابِص“؛ وهي صيغة تحذير رمزية تعني: توخَّ الحذر، فثمّة من الحضور من لا يُؤمَن جانبه، بل قد يكون متربّصًا يتصيّد كلّ ما يُقال. إنها شفرة اجتماعية موجزة، تُقال بنبرة محايدة، ولكنها مشحونة بدلالات من الفطنة والحذر والذكاء الجمعي.
وهناك الكثير والكثير من هذا اللون في تراثنا الأحسائي الجميل، لذلك فإن الأحسائي حين يطلق هذه الشفرات ويجد من يفهمه دون أن ينطق، يبادر قائلًا بارتياح ”اللّي ما يدل جَعْبِكْ يتعبك“؛ أي أن من لا يحيط بما في نفسك وفكرك سيتعبك، لأن بعض الأمور تُفهَم ولا تُقال.
وهنا يحسن أن نؤصل لهذا المثل من حِكم أمير المؤمنين «العاقل يألف مثله، والجاهل يميل إلى شكله» [2] ؛ فالعاقل لا يأنس إلا بمن يشبهه عقلًا وخلقًا، إذ يتشابهان في الجوهر، أما الجاهل فلا يميل إلا إلى من يشاركه سطحية الفكر وضحالة الفهم، فالشَّبه عنده في القشور لا في العقول.
وبالمناسبة، حين أتحدّث بين الحين والآخر عن التراث الأحسائي، فذلك لأني ابن هذه البيئة، دون إقصاء لغيرها؛ فإثبات الشيء لا ينفي ما عداه، فلكل بيئة تراثها الذي يختزن حكمتها وتاريخها، ويستحق أن يُستخرج منه النافع والملهم.
ولهذا، أوجّه دعوةً صادقة عبر هذه المنصة المباركة، أن يشارك كلٌّ منّا جوانب مشرقة من إرثه الثقافي، لنتقاطع عند المعرفة، وننهل من ينابيع الحكمة الشعبية بشتى ألوانها.