درس في النجاة «2»
لكلٍّ منا رزقٌ كُتب له، وحياةٌ اختيرت له، لكننا لسوء الطالع، نعيش الغفلة في أسمى تجلياتها، فننظر إلى ما في أيدي غيرنا أكثر مما ننظر إلى ما بين أيدينا. نُتابع صورًا تُنشر، ومقاطع تُعرض، وأيامًا تبدو كأنها خُلقت للترف والراحة فقط، فنهزّ رؤوسنا حسرة، ونُحدّث أنفسنا جهارا نهارا أو في صمت، وكأننا لا نعلم، أن كثيرًا مما نراه لا يُشبه حقيقته في شيء، وأن خلف الصورة الملوّنة حياة قد تفتقر لأبسط مقوّمات الطمأنينة.
ليس الذنب في أن نُعجب، فهذا طبيعي. لكن الخطر أن نُقارن، فنُقلّل من شأن نعمة أنعم الله بها علينا، لأننا رأينا غيرها في يد سوانا. المقارنة لا تنصف أحدًا. هي تسرق الراحة، وتذبل الرضا، وتجعل الإنسان يجري خلف وهم، لا يُدركه، ولا يستريح منه. فهل يعقل أن نُلغِي أفراحنا المتواضعة، لأن غيرنا نشر صورةً لأفراحه التي تظهر التباهي والتعالي..؟
الحياة لا تقف على نوع السيارة، ولا على اسم الفندق، ولا على تنوع الرحلات. ربّ يومٍ قضيته مع من تحب في زاوية هادئة، كان عند الله أعظم وأجمل من مئة ليلة في أبراج لا تعرف السكون. فلا تُخطئ الطريق بظنك أن الرفاه وحده هو البرّ الآمن، فكم من مُترفٍ لم يعرف يومًا طعم السلام..!
النجاة يا صديقي، هي أن تنجو من فكرة أن ما تملكه لا يكفي. أن تُحبّ بيتك وإن كان صغيرًا، وطعامك وإن كان بسيطًا، ووقتك وإن لم يكن مليئًا بالمغامرات. النجاة.. في أن تعيش بامتنان، لأن الامتنان يُنبت السكينة، والشكوى تُذبل الروح.
لا تُشغل قلبك بحياة غيرك، فربما تمنّى صاحبها لو يعيش طمأنينتك التي لا تراها. ولستَ مطالبًا أن تُنافس أحدًا، بل أن تحيا بما كُتب لك بأجمل وجه. لا تخف من أن تكون عاديًا، فالرضا لا يحتاج إلى كل تلك البهرجة، بل إلى يقين وإيمان بأن الله لا يُضيّع من أحسن الظن به.
إن كنتَ من عشّاق الجمال، ففتّش عنه في قلبك قبل أن تُنقّب عنه في المقتنيات. اجعل من حديثك مع نفسك لحنًا جميلا، ومن نظرتك لحياتك نورًا يُضيء العتمات، ومن صمتك سجودًا خفيًّا يشكر الله على النِعَم التي لا تُحصى. لا تدع سطح الحياة يخدعك، فإن الجوهر الصافي لا يُرى في الصور، بل في الطمأنينة التي تملأ صدرك حين تدرك أنك بخير، ومن دون أن يراك أحد.
النجاة الحقيقية هي أن ترى شروخك بعينٍ مُسالِمة، قبل أن تبدأ فى ترميمها وتطريزها بالمعنى الذي هو أغلى من الذهب.. بالبصيرة التي تنير قلبك، بالرضا الذي يستوطن صدرك، وبذلك الدعاء الصامت الذي لا يسمعه أحد، إلا الذي يعلم خفايا القلوب.
أما الدرس الحقيقي في النجاة، هو كيف تُنقذ نفسك من نفسك، قبل أن تسرقها عيون المقارنة.