آخر تحديث: 30 / 7 / 2025م - 3:00 ص

الكاذب لا يعيش حياة واحدة

هاشم الصاخن *

هل تغيَّر مفهوم الكذب؟

أم أنَّ الزَّمان أصبح أكثر تهاونًا مع من يتقن التَّلوين والتَّزييف؟

لم يعد الكذب عند بعض النَّاس فعلًا قبيحًا؛ بل صار ”أسلوب حياة“، يُمارَس ببساطة، ويُقال بلا خجل، ويجد لنفسه موضعًا في العلاقات اليوميَّة والتَّعاملات الاجتماعيَّة.

في زمنٍ ما، كنَّا نميِّز بين الكذب الأبيض والأسود، واليوم… اختلطت الألوان، وتداخلت الأقنعة، حتَّى صار الصِّدق مستهجنًا في بعض المجالس، والكذب مقبولًا إن كان يُضحك أو يُرضي!

ليس الحديث هنا عن كذبة عابرة أو زلَّة لسان، وإنَّما عن أُناس لا يستطيعون العيش إلَّا بالكذب. عن أولئك الذين لو قلت لهم: ”كن صادقًا ليوم واحد“ … اختنقوا!

الكذب لا يبدأ بفضيحة؛ بل بخطوة صغيرة لا يراها صاحبها مستهجنة.

ربما تكون كذبة قالها ليتخلَّص من موقف، أو ليجامل أحدهم، أو ليُخفي تقصيرًا في أمر ما. وتمرُّ تلك الكذبة مرور الكرام، ثمَّ تعقبها أخرى… وهكذا من دون أن يشعر، ويصبح الكذب مألوفًا، ثمَّ معتادًا، ثمَّ صفة متجذِّرة لا يتردد فيها ولا يخجل منها.

ومع الوقت، تتبدل أخلاق الإنسان دون أن يلاحظ؛ فمن كان واضحًا يصبح مراوغًا، ومن كان صادقًا يتحوَّل إلى متلوِّن.

إنَّ الكذب يُخرِج صاحبه من عالم النَّقاء، إلى دهاليز الالتواء؛ حيث اللسان لا يعرف الصدق إلَّا نادرًا، وحيث المواقف تُصاغ حسب المقام، لا حسب الحقيقة.

والمؤلم أنَّ الكاذب، حتَّى لو ظنَّ أنَّه يُتقن التَّمثيل، لا يستطيع أن يعيش حياةً واحدة.

ويراه كلُّ شخص بشخصيَّة مختلفة، وكأنَّه يتقمَّص أدوار عدَّة في المجتمع، لا ثبات فيها ولا ملامح واضحة؛ وإنَّما أقنعة متبدلة حسب من يراه. ويتآكل من الداخل، وتتساقط هيبته من الخارج. لا يُوثَقُ بكلامه، ولا يُؤتَمن على أمانة، ولا يُستشار في لحظات الجد. وقد يضحك النَّاس معه، لكنه في قرارة نفوسهم مرفوض… لأنَّهم يعلمون أنَّ كلماته لا تسندها حقيقة.

الكذب يدمِّر صاحبه، ويُفسد العلاقات من جذورها، خاصَّة حين يُمارَس باسم ”الحفاظ على الودّ“ أو ”تجنّب المشاكل“؛ فمن يكذب على صديقه، أو زوجته، أو زميله، يظن أنَّه يُخفّف التوتر؛ لكنه في الحقيقة ينقض الثقة بخيوط واهية. وحين تهتز الثقة، لا تعود الكلمات صادقة في وقعها، حتَّى لو كانت صادقة في معناها.

وفي العلاقات، الثقة إذا تصدَّعت بفعل الكذب، يصعب ترميمها… وقد لا تعود كما كانت أبدًا. وما نغفل عنه أحيانًا، أنَّ الكذب عادة تُكتسب بالتقليد أو بالخوف، وليست عادة فطريَّة؛ فالطفل لا يكذب وحده؛ بل يتعلَّمه من بيئته؛ من وعود لم تُنفَّذ، ومن أعذار لا أساس لها، ومن مواقف يسمع فيها والديه يقولان شيئًا ويفعلان غيره.

لذلك، من أراد أن يُنْشِئ جيلًا صادقًا، فعليه أن يصدُق أوَّلًا؛ لأنَّ التربيَّة تبدأ من القدوة، لا من المحاضرة.

وأسوأ ما يصل إليه الكاذب، أن يصدِّق نفسه، وأن يُعيد الكذبة في ذهنه مرَّات، حتَّى يختلط عليه الوهم بالحقيقة، ويظن أنَّ ما قاله بالأمس دفاعًا أو تبريرًا، أصبح اليوم واقعًا يستند إليه في قراراته ومواقفه، وهذا النَّوع من الكذَّابين هو الأخطر؛ لأنَّه لا يشعر أصلًا أنَّه يكذب؛ وإنَّما يستغرب من يتهمه، ويغضب ممَّن يُشكِّك في كلامه، ويُجيد قلب الطاولة وكأنَّ الطَّرف الآخر هو المخطئ.

إنَّه يعيش في ”عالمه الموازي“، حيث الأكاذيب تصبح وقائع، والتزييف يتحوَّل إلى رواية، والضمير… صامت.

روي: ”أنَّ رجلًا أتى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم فقال: يا رسول اللّه علِّمني خلقًا يجمع لي خير الدُّنيا والآخرة، فقال: لا تكذب، فقال الرجل: فكنت على حالة يكرهها اللّه فتركتها خوفًا من أن يسألني سائل:“ عملت كذا وكذا؟ ”، فأفتضح أو أكذب فأكون قد خالفت رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم فيما حملني عليه“ «سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، ج 7، ص 455». فإذا قرَّر الإنسان أن يكون صادقًا، بدأ يحسب كلماته، ويتراجع عن أخطائه؛ لأنَّ الكذب هو الغطاء الذي تستتر تحته المعاصي كلها.

لذلك، لنترك الكذب الصَّغير، فهو الباب الذي يُدخلنا إلى الكذب الكبير، ولنستشعر أنَّ الله تعالى قادر على فضحنا ولو بعد حين. ولنجعل من الصدق عادة تليق بقلوب تخشى الله سبحانه قبل أن تخشى النَّاس.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
نادر الخليفة
14 / 7 / 2025م - 6:05 م
أشوف إن هالمقال يهم حتى بيئة العمل. الكذب مو بس في العلاقات الشخصية حتى في التقارير والوعود الإدارية صار شيء معتاد.
2
زينب
[ القديح ]: 14 / 7 / 2025م - 8:13 م
كثير علاقات تنتهي لأن البداية كانت “كذبة بيضا”
3
سلمان
[ العوامية ]: 14 / 7 / 2025م - 10:12 م
الكذب صار موضة للاسف الشديد
سيهات