كينتسوجي الروح: حين تتحول كسورنا إلى خطوط من ذهب
مرآة الروح: قراءة في أثر قصة ”إيمان وصلاة الشمال“ لحسن البطران
بعض النصوص ليست مجرد حكايات، بل مفاتيح تفتح أبوابًا خفية في الروح.
هذا ما شعرتُ به وأنا أقرأ قصة ”إيمان وصلاة الشمال“ للأستاذ حسن البطران.
في أحد مشاهدها، رأيت ”إيمان“ تركع على الأرض تجمع شظايا كأسٍ مكسور. لكنها لم تكن تلملم زجاجًا فحسب، بل أجزاءً من نفسها المبعثرة، في فعل صامت من الصمود واليقين.
هذا المشهد، بهدوئه وقوة رمزيته، استدعى فورًا إلى ذهني فلسفة يابانية قديمة تُعرف بال ”كينتسوجي“ ”Kintsugi“.
ومن تلك اللحظة، بدأت رحلة هذا المقال — رحلةٌ نحو فهم أعمق لما يعنيه أن نُرمّم أنفسنا لا بالإنكار، بل بالتقدير... بالذهب.
ال كينتسوجي، أو ”الوصل بالذهب“، ليس فنًا يدويًا فحسب، بل رؤية فلسفية للعالم.
تعود أصوله إلى القرن الخامس عشر، حين كسر الحاكم الياباني أشيكاغا يوشيماسا وعاء شاي ثمينًا. أُصلح الوعاء بمشابك معدنية قبيحة لم تُرضِ الحاكم، فطلب من حرفييه إصلاحه بطريقة تكرّمه لا تخفي كسوره.
فكانت ولادة هذا الفن، الذي يملأ الشروخ بخليط من الذهب والصمغ، ويحوّل الآنية المكسورة إلى تحفة نادرة.
لكن هذا الأسلوب لم يخلّد فقط بسبب جماله، بل لأنه لامس أعماقًا روحية ونفسية عميقة في الإنسان.
من هنا، تنبع فلسفة الكينتسوجي بثلاث ركائز:
• وابي - سابي ”جمال النقصان“: تقدير الأشياء غير الكاملة، الممزقة، التي تحكي حكايات الزمن. تمامًا كما نُقدّر صمودنا ونتعلم أن التجاعيد والندوب ليست عيوبًا بل شهادات على النجاة.
• موتايناي ”رفض الهدر“: الشعور بالأسف على هدر أي شيء ذي قيمة — حتى الألم. فكل تجربة مؤلمة تحمل درسًا، وتجاهل هذا الدرس هو الهدر الحقيقي.
• موشين ”تقبّل التغيير“: لا نعود كما كنا قبل الكسر، بل نصبح أكثر عمقًا، أكثر صدقًا. التعافي ليس عودة، بل ولادة.
كيف تحكي قصة ”إيمان“ فن الكينتسوجي بلغةٍ روحية خالصة؟
القصة التي كتبها حسن البطران، رغم قِصرها، تتطابق بشكل مذهل مع مراحل الكينتسوجي النفسي والروحي. فلننظر إلى هذه التقاطعات:
1. الكسر: تبدأ القصة بوضوح: ”انكسرت الكأس“. لا إنكار. لا مواربة. الكسر هو البداية.
2. جمع الشظايا: ”جمعتها كلها رغم صغر حجمها“ — قرار واعٍ بعدم التخلّي، تمامًا كما يفعل الحرفي الذي يعرف أن كل قطعة تحمل معنى.
3. الترميم: ”إيمان تحت سقف داري“... ”عينٌ كانت تنظر إليها“. إنها اللحظة التي يبدأ فيها الصمغ الروحي بالعمل — الرعاية، الاحتواء، الحضور الصامت الذي يسمح بالشفاء.
4. تقديس الشرخ: الذروة تكمن في ”صلاة الشيخ بجوار جدارها المتصدع“. الجدار المتصدع يصبح موضع صلاة. الكسر يُحتفى به، لا يُخفى. إنه مصدر للاتصال لا للعار.
5. القيمة الجديدة: ”كبرت الدار وتعددت أبوابها“. البيت بعد الترميم صار أوسع. النفس أيضًا. لم تعد كما كانت، بل أفضل، وأعمق، وأكثر انفتاحًا.
كلنا نولد آنية مصقولة، ثم تأتي الحياة — بخيباتها، بفقدها، بجراحها الصغيرة والكبيرة — فتكسر شيئًا فينا.
المجتمع يعلّمنا أن نرتدي قناع ”أنا بخير“، أن نخجل من ندوبنا، أن نخفيها.
لكن ماذا لو اخترنا أن نُظهر شروخنا ونملأها بالذهب؟
تطبيق الكينتسوجي على الروح يبدأ من هنا:
• الصمغ: هو الوعي، المواجهة، العلاج، التأمل... كل ما يجعلنا نلتفت بصدق إلى مواضع الألم.
• الذهب: هو الحكمة التي تولد من الألم. التعاطف، البصيرة، القوة، النضج، السكينة... هذه هي خطوط الذهب التي نرسمها بإرادتنا بعد كل كسر.
التزيين بالذهب هو فعل حب للذات. هو اعتراف بأن هذا الشرخ ليس دليلاً على ضعفك، بل أثر نجاتك.
الشخص الذي يتبنّى ”كينتسوجي الروح“ لا يسعى للعودة كما كان، بل يخلق نفسه من جديد.
يصبح أكثر إنسانية، أكثر وعيًا، أكثر صدقًا.
إنسان يروي قصته من خلال الندوب لا بالرغم منها، بل بفضلها.
وهذه الحكمة لا تنحصر في الذات فقط:
شركة تتعافى من أزمة، مجتمع ينهض من نكسة، فنان يصوغ الألم إلى فن...
كلها صور من ”كينتسوجي جماعي“.
هذه القصة تذكرنا أننا لا نُشفى بإخفاء الجروح، بل بالاعتراف بها.
أن الشرخ لا يختفي مهما طال الزمن، لكنه يصبح أليفًا حين نعرف كيف نتعايش معه، ونملأه بما هو أغلى من الذهب: معنى النجاة.