آخر تحديث: 27 / 7 / 2025م - 3:34 م

حين يُختزل الإنسان في التملك

سراج علي أبو السعود *

تحوّلت الأعراف الاجتماعية، وما يُعرف اليوم بـ ”الموضة“، إلى أداة ضغط خفية لكنها فعالة، تدفع كثيرًا من الناس إلى مسايرة نمط استهلاكي يفوق قدراتهم. فعندما تتبنى شريحة واسعة من المجتمع مستوى معينًا من الإنفاق، يتحول هذا المستوى إلى ما يشبه ”المعيار الاجتماعي“، ويُنظر إلى من يخالفه نظرة دونية، قد تغلفها السخرية أحيانًا، تحت هذا الضغط، يندفع البعض لتحمّل نفقات لا يطيقونها، فقط من أجل البقاء في دائرة ”القبول الاجتماعي“. وهكذا، يعيش الإنسان حياة ظاهرها الرفاه، وباطنها الفقر والعوز. وقد يظن المجتمع أن هذا الشخص من أصحاب الدخل العالي، لكنه وحده من يدرك كيف تمتد إليه أكفّ البنوك كل شهر دون هوادة، لتقتطع ما تبقّى من دخله المحدود، وتتركه وأسرته في ألم الديون ومرارة الحاجة.

رغم أن مبدأ ”مدّ رجلك على قدّ لحافك“ يُعد من الحكم الشعبية القديمة، وربما يُنظر إليه أحيانًا بوصفه حديثًا تقليديًا أو ”كلام عجائز“، إلا أنه يحمل قدرًا كبيرًا من الصواب. لكن المشكلة الحقيقية لا تكمن فقط في تجاهله، بل في أن الإنسان المعاصر بات يختزل الكمال الإنساني في التملك وحده. حين يتغلغل الفكر الرأسمالي في الوعي، يتحول الإنسان إلى كائن يلهث خلف المال والممتلكات، وتضعف لديه القدرة على التمييز بين القيمة الحقيقية والزائفة، حتى يُختزل كل معنى للنجاح أو الكمال في معادلة واحدة: ”كلما زاد المال، زادت القيمة والنفوذ.“. كثير من الشرور الكبرى في هذا العالم — من الحروب إلى تجارة البشر والمخدرات، وحتى الفساد المالي والإداري — تعود في جذورها إلى هذه النظرة الرأسمالية المادية التي تسللت إلى قلب الإنسان، وجعلت المال مقياسًا لكل شيء. وهكذا، يغدو الإنسان صورة مصغرة عن النظام الرأسمالي ذاته؛ كائنًا منزوع القيمة الأخلاقية، مسلوب الهوية المعنوية، ومختزَلًا في وظيفة واحدة: التملك… ثم التملك فقط.

في تصوري، إن وضع منهج علمي رصين لعلم الأخلاق بات ضرورة لا غنى عنها لإعادة تشكيل الوعي، أو لنقل: لإعادة بناء معايير التفكير السليم. فالأمر، كما أراه، أعقد من أن يُترك لوالدين هما أنفسهما نتاجٌ لمجتمع يتبنى في معظم سلوكياته أبرز مظاهر الفكر الرأسمالي. ينبغي للطالب، منذ نعومة أظفاره، أن يدرك بأن سيارة ”بورش“ لن تضيف إلى قيمته شيئًا، وأن ”كورولا“ لن تنقصه شيء. العلم هو ما يرفعه، والأخلاق هي ما تسمو به. ودونهما، لن يكون ذا شأن أو وزن، إلا في أعين اولئك الذين لا ينبغي أن يُعتدّ برأيهم، ولا يُؤبه لقولهم.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
ام فاطمة
[ العوامية ]: 13 / 7 / 2025م - 11:16 ص
تعبنا من مجاراة موضة المظاهر! كثير ناس عايشين ديون علشان ما يقال عنهم “مقصرين”
2
آمنة آل محفوظ
13 / 7 / 2025م - 2:28 م
جزء كبير من الضغط اللي نحس فيه يوميا يجي من المقارنات الاجتماعية اللي الكاتب وصفها بدقة. فعلا حتى سياراتنا صارت دليل على “قيمتنا” عند الناس!
3
عبدالله آل عباس
13 / 7 / 2025م - 10:41 م
“كورولا ما تنقصك وبورش ما تزيدك”. تلخيص رائع لهوس الاستهلاك اللي قتل فينا البساطة والرضا.
4
زينب منصور
[ سيهات ]: 14 / 7 / 2025م - 2:49 م
المقال قوي لكن يحتاج إضافة لموضوع تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في ترسيخ ثقافة التملك. التطبيقات اليوم تصنع نمط حياة وهمي يضغط عالكل.