الساعة العاطفية: أين يذهب وقتنا بين النفس، الأسرة، الأصدقاء والمجتمع؟
في عصر تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتشابك فيه الالتزامات، من المهم أن نتوقف قليلًا ونسأل أنفسنا: كيف نقضي وقتنا؟ ومع من؟
حين نراجع سجل يومنا، ونُمعن النظر في الأشخاص الذين نلتقيهم كل 24 ساعة، تتكون أمامنا ”خريطة زمنية“ دقيقة لعلاقاتنا اليومية - خريطة تغيرت كثيرًا عبر الأجيال، وتكاد تعكس تحولات الحياة الاجتماعية والوجدانية.
الصورة البيانية المستندة إلى جدول ”ملازمة نفسي وأقراني «يوميًا»“ تقدّم تصورًا بصريًا لتوزيع الوقت عبر أربع دوائر محورية من العلاقات: النفس، الأسرة، الأصدقاء، والمجتمع. هذه العلاقات ليست متساوية في حضورها، بل تكشف البيانات عن أنماط لافتة تستحق الوقوف عندها:
اللافت أن الوقت المخصص للنفس ظل شبه ثابت على مدار العقود - بمتوسط ساعة يوميًا.
رغم كل ما تغيّر في العالم حولنا، بقي للإنسان حاجته إلى ”الخلاء الذاتي“، إلى مساحةٍ داخلية يتأمل فيها ذاته أو يسترخي أو يعيد فيها ترتيب نفسه.
هذا الثبات مؤشر قوي على أن الصفاء الداخلي ليس رفاهية، بل حاجة أصيلة.
المخطط الزمني يكشف عن تدهور لافت في الوقت المخصص للعائلة.
قبل 50 عامًا، كان الفرد يقضي نحو ساعة كاملة يوميًا مع أسرته.
اليوم؟ 0.2 ساعة فقط «12 دقيقة».
هذا التراجع الصادم يعكس انشغال الناس بالعمل، التكنولوجيا، وتغيّر أنماط السكن والتواصل.
ما بين الهاتف المحمول والتلفاز والانشغال المفرط، باتت الأسرة آخر من نلتقيهم فعليًا في يومنا.
العلاقات مع الأصدقاء شهدت نموًا واضحًا في العقود الماضية، لتبلغ ذروتها قبل 10 سنوات بمتوسط 2.5 ساعة يوميًا، ثم بدأت بالتراجع تدريجيًا لتصل إلى 2 ساعة حاليًا.
هذا المنحنى يعكس طبيعة الحياة الاجتماعية في سنوات الشباب، لكن أيضًا يوضح أن الأولويات تبدأ بالتحول مع النضج أو التقدّم في العمر.
أما على صعيد التفاعل المجتمعي - مع الجيران، الزملاء، والفضاء الاجتماعي العام - فإن الوقت المخصص ظل محدودًا جدًا، ولم يتجاوز 0.5 ساعة في أي فترة.
المتوسط العام عبر العقود: 0.2 ساعة فقط.
وهذا يبيّن تراجع الانخراط في الشأن العام، وفقدان الروابط اليومية التي كانت توثّقها الجلسات المسائية أو المجالس الشعبية أو التجمعات البسيطة.
خلال الخمسين سنة المقبلة: ”المفرمة الزمنية“
إذا استمرت الأنماط الحالية بنفس الوتيرة، فإننا أمام ما يمكن تسميته بـ ”المفرمة الزمنية“ - حيث يزداد الاستنزاف الزمني لصالح الأجهزة والتقنية، بينما تتقلص المساحات المخصصة للعلاقات الإنسانية.
• النفس:
تقلّص مساحة التأمل والانفراد بالنفس لصالح التصفح والمحتوى اللحظي.
• الأسرة:
تآكل مفهوم ”الوقت العائلي“ وتحوله إلى مجرد لقاء عابر أو تواصل رقمي.
• الأصدقاء:
تحوّل الصداقة إلى تفاعل سطحي عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي.
• المجتمع:
مزيد من الانعزال، ومجتمعات افتراضية تحلّ محل الواقع، مما يضعف الانتماء المحلي والتكافل.
• ثبات الوقت مع النفس يدل على أن الإنسان لا يستغني عن لحظة صفاء.
• انحدار الوقت الأسري ناقوس خطر يهدد البنية الاجتماعية.
• الصداقة تمرّ بمرحلة نمو ثم هبوط مع تغيّر المسؤوليات.
• التفاعل المجتمعي لا يزال في الهامش، ما يستدعي مبادرات حقيقية لإحيائه.
• المستقبل يحمل تحذيرًا واضحًا من استنزاف العلاقات لحساب الآلة.
ندعو من خلال هذا التحليل إلى إعادة ضبط البوصلة الزمنية لعلاقاتنا، والتفكير الواعي في كيفية توزيع ساعات يومنا.
تنظيم الوقت، تقليل الملهيات الرقمية، وإحياء لحظات الحوار الحقيقي مع من نحب، كلها وسائل لاستعادة التوازن.
فالزمن يمضي…
لكن أثر العلاقات يبقى.
فلنمنح من حولنا ما يستحقون من وقت، قبل أن تبتلعنا ”المفرمة الزمنية“.