آخر تحديث: 30 / 7 / 2025م - 3:00 ص

مذْهبُ الدّمُوع وقيدُ الحديد

ليلى الزاهر * ليلى الزاهر

عندما تفرّ الكلمة، وتجري مسرعة لأنها تخشى ألّا تفي بحق الموقف، تُغضي حياءً لأنها عاجزة عن ربط الحروف ببعضها البعض.

لو تأملنا مشاهد الطّف الحسيني لرأينا عجز السياق الكتابي عن وصف ألم عاشوراء لذلك تُنثر الدموع وتحلّ مكان الكلمات.

ولذلك كانت أبرز صفات المؤمنين البكاء على الحسين، فعن أبي جعفر الباقر قال:

كان علي بن الحسين يقول: أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي حتّى تسيل على خدّه، بوّأه الله بها في الجنة غرفًا يسكنها أحقابًا"

ويكفي الشاعر فخرا أن ينظم بيتين من الشعر إلّا وانسكب الثواب في صحيفة أعماله.

يقول الإمام الرضا :

«ما قال فينا مؤمن شعرًا يمدحنا به إلّا بنى الله تعالى له مدينة في الجنّة أوسع من الدنيا سبع مرّات، يزوره فيها كلّ ملك مقرّب وكلّ نبيّ مرسل»

وإن اعترضت طريقنا المبالغات وبدأ البعض يبثّ الشكوك في نفوسنا للتشكيك في عظيم الثواب المنتظر فلن يُرفع غطاء الشّك إلّا عن سرّ إلهي عظيم نرى من خلاله وميض أنوار الحسين بن علي بن أبي طالب شاخصًا يُذكي في أرواحنا الحب العميق لمحمد وآله.

ألم يقل رسول الله «حسين مني وأنا من حسين»؟

ألم يكن يُطيل سجوده لأن حسينه ركب فوق ظهره فمنعه من أن يرفع من سجوده؟

أليس الإمام الحسين هو صاحب هذا القول؟

”إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا، ولا ظالمًا، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر“

التساؤلات كثيرة والإمام الحسين هو أول من طرحها إذ وقف يتساءل!

ألسّت ابن بنت نبيّكم صلّى الله عليه وآله؟ وابن وصيّه؟

فوالله، ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيّكم خاصّة.

وعبثا أن نُنزل الحسين من مملكته الحسينيّة الشامخة إلى مملكة النسيان والخمول فننسى ما حدث في كربلاء، ويكف الخيال عن رسم محاسن الحسين التي نعشقها وروحه التي لا نراها بأعيننا بل جنّدنا جميع ما نملك من مشاعر صادقة وعقل راجح حتّى نعيش الرمضاء ونشعر بتكسّر أضلاع الحسين ونبحث عن صور «الخيول الأعوجية» التي ساهمت في سحق عظام الحسين الشريفة.

لقد انزويت بين كتبي لأرى الحسين في حضن جدّه الشريف يلاعبه، ويتلقاه في مسجده، يناديه بسيد شباب الجنة، ينسبه لنفسه «حسين منّي وأنا من حسين أحب الله من يُحبّ حسينا»

وكبُر الحسين أمام ناظر جده وجاء يوم الإهداء، ومن هنا بدأت خيوط كربلاء تُنسج بحبّ وحبكة مؤلمة حيث أهدى رسول الله أم سلمى حفنة من تراب كربلاء وضعتها في قنينة كما جاء في أخبار المسلمين جميعهم:

«حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني عباد بن زياد الأسدي ثنا عمرو بن ثابت عن الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أم سلمة قالت:

كان الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما يلعبان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي فنزل جبريل فقال يا محمد إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك فأومأ بيده إلى الحسين فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمه إلى صدره ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وديعةٌ عندكِ هذه التربة فشمّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ويح كرب وبلاء قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم سلمة إذا تحولت هذه التربة دما فاعلمي أن ابني قد قتل. قال: فجعلتها أم سلمة في قارورة ثم جعلت تنظر إليها كلّ يوم وتقول إنّ يوما تتحولين فيه إلى دم ليوم عظيم»

ولم تنقطع أخبار الحسين عنّا مطلقا فقد أصبحت مثل الإرث النّبوي يتوارثها وصيّ بعد وصي وإمام يتلوه إمام سواء كانت بإقامة مجالس العزاء أم بالمرثيات التي كانت تنعي الحسين فتدمي القلب وتقرح الجفون.

واستمرت الدموع بالانهمار وأصبحت مذهبًا جديدًا يعتقد به جميع المحبين ولها تاريخ طويل كيفما أراد القلب البحث فيه سوف يجد قيد الحديد الذي أوجع الإمام زين العابدين فلم ينسَ ما حدث لوالده ما عاش من الزمن.

حدّث مولى للإمام زين العابدين قال: برز الإمام زين العابدين يوما إلى الصحراء فتبعتُهُ، فوجدتُه قد سجد على حجارة خشنة، فوقفت وأنا أسمع شهيقه، وأحصيت عليه ألف مرة يقول:

«لا إله إلّا الله حقّا حقا، لا إله إلّا الله تعبّدا ورقّا، لا إله إلّا الله إيمانًا وصدقا» ثم رفع رأسه من سجوده وأن لحيته ووجهه قد غمرا من دموع عينيه، فقلت له:

يا سيدي أما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن يقل؟

فقال:

ويحك أن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيا وابن نبي، له اثنا عشر ابنا فغيّب الله واحدا منهم، فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وذهب بصره من البكاء، وابنه حي في دار الدنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي، صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي؟

وقد كان الإمام الصادق يُقيم المآتم عند ذكرى يوم عاشوراء ويكلف الشعراء الموالين لآل البيت بنظم قصائد ومرثيات في حق الحسين ومن قضى معه، ويخصّ النساء بمكان خاص يستمعن فيه ويبكين على مصاب أبي عبدالله مثلما نعمل في وقتنا الحاضر.

وقد ثبُت عن الإمام الرضا أنه كان يبكي وينتحب عندما كان دعبل الخزاعي ينشد الشعر في أحداث كربلاء

وصادف في مجلسه أثناء بكائه أن وضعت جارية من جواريه طفلًا في حضنه مما جعله يتذكّر عبدالله الرضيع فأخذ ينتحب ويبكي أشدّ البكاء على جدّه الحسين وما حلّ بأهل بيته.

إنّ البكاء على أبي عبدالله الحسين لم يكن رمزا فقط وإنما شعيرة من تقوى القلوب ولهذه الدموع مستودعها الخاص فلا تنهمر إلّا بمسماها الخاص، وما نقرؤه بين سُطور هلال الحسين يُدرك بالفطرة وتُقلبه الأفكار ويعتقده الضمير.

هو أعمق من دمُوع تُذرف، أو مشاعر تُنجب أفكار شاعرٍ أو كاتب، إنّه الحُسين وكفى!

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 5
1
زينب علي
[ الحلة ]: 12 / 7 / 2025م - 3:43 م
ذكرتني هالجملة: “الدموع أصبحت مذهبا جديدا” بشعور والدي لما يرجع من الحسينية وعينه كلها دمع. أظن كثير من قراء المقال حسوا نفس الإحساس.
2
مرتضى شنر
12 / 7 / 2025م - 5:25 م
الكاتب أو الكاتبة اللي يقدر ينقل لك حرارة عاشوراء بهالكيفية يستحق الاحترام. كل حرف هنا كان كأنه دمعة مكتوبة.
3
رقية النمر
12 / 7 / 2025م - 6:51 م
هذا النوع من المقالات اللي ترجع له كل محرم كل ما ضاقت النفس وبغت تذكر ليش نحزن. شكرا استاذة ليلى على الوفاء لهذا الطريق
4
أبو باقر
[ القطيف ]: 13 / 7 / 2025م - 1:28 ص
هي الدموعُ الجاريات لِكلِ سَطرٍ تكتحِل به العيون ويكفينا فخرا أن جَمعنا هذا في ظِل شهادته عليه السلام. لك الأجر و خالص الدُعاء أستاذة ليلى
5
زكريا أبو سرير
15 / 7 / 2025م - 1:59 ص
عن الإمام الصادق (عليه السلام): "من أراد الله به خيراً قذف في قلبه حب الحسين (عليه السلام) وحب زيارته، ومن أراد الله به سوءاً قذف في قلبه بغض الحسين (عليه السلام) وبغض زيارته".
شكرا لك استاذة ليلى و بوركت اناملك المباركة، ودمت موفقة بحق الحسين الوجيه وجديه وأبيه واميه واخية والأئمة المعصومين الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين، وعظم الله أجوركم وأجورنا.