العربية… حضورٌ يتآكل من الداخل
في زمنٍ لم تعد فيه للكلمات حدود، تجد العربية نفسها كغريبٍ يتلمّس الطريق بين لغاتٍ تتدافع على الألسنة كما تتدافع الإعلانات على الواجهات. لم تعد المشكلة في استعارة بعض المفردات الأجنبية عند الحاجة، بل تحوّل الأمر إلى حالةٍ وجودية، تنذر بفقدان اللسان والهوية في آنٍ واحد. أصبحت العربية تشبه فسيفساء ممزّقة من المفردات الهجينة، يُقال بعضها خجلًا، ويُستبدل أكثرها اتكالًا على غيرها.
تبدأ القصة من حيث تنكسر النفوس لا من حيث تُحتلّ الأرض. قرونٌ من التراجع الحضاري رسّخت في الوعي العربي أن اللغة الأم لم تعُد تكفي لمجاراة العصر، وأن الطريق إلى المستقبل لا يمر بها، بل عبر لغات الآخرين. هذا التراجع لم يكن لغويًا في جوهره، بل نفسيًا وثقافيًا، حوّل كثيرًا من النخب من حُماة للهوية إلى وكلاء للتغريب. صار من المألوف أن يتباهى أحدهم بطلاقة لغة أجنبية، بينما يُقصي الفصحى من حياته كما يُقصى اللباس التقليدي في المناسبات.
في المدارس والجامعات، تُزرع بذور هذا الاغتراب مبكرًا. يتعلّم الطفل أن ”الكمبيوتر“ هو الحقيقة، و”الحاسوب“ مجرد ترجمة، وأن ”الموبايل“ هو العالم، و”الهاتف“ بقايا زمنٍ ماضٍ. هذه الازدواجية لا تصنع خللًا لغويًا فقط، بل تُحدث شرخًا في الانتماء، وتضعف ثقة الناشئة بلغتهم، حتى يصير التحدّث بها عبئًا لا امتيازًا.
وسائل الإعلام ومنصات التواصل، بدل أن تكون درعًا لحماية الهوية، باتت مرآةً لهذا التشظّي. نسمع لغة هجينة تتباهى بالألفاظ الأجنبية، ونتابع محتوى يتوسّل التأثير لا العمق، بينما تتوارى الفصحى شيئًا فشيئًا خلف حوارات اصطناعية لا تُجيد التعبير ولا تُجيد الصمت.
الخطير في كل هذا ليس فقط في الكلمات، بل في فقدان العلاقة الحيّة بين اللغة والوجدان. لقد تحوّلت العربية الفصحى إلى لغة المناسبات، والخطابات، والصلوات، بينما العامية الممزوجة بالمصطلحات الأجنبية صارت لغة الحياة اليومية، والمقهى، والهاتف، والمدرسة. حين يحدث ذلك، لا تُمحى الكلمات فقط، بل يُمحى الإحساس بها، وتُقطع الصلة بين الإنسان وتاريخه، بين الجملة ومجتمعها، بين الحرف ومن نطقه أول مرة من قلب الحياة.
لكنّ العجز ليس في اللغة. هي التي حملت علوم الفلك، وفتحت أبواب الطب والفلسفة، ودوّنت الشعر والفكر والشرائع. العجز فينا، نحن الذين فقدنا ثقتنا بها، ولم نعد نمنحها من الجهد ما نمنحه لغيرها. نحن الذين صدّقنا أن الفصحى لغة الماضي، لا لغة الإبداع والابتكار.
لا سبيل لاستعادة هذا الحضور سوى بالتغيير الجذري في نظرتنا إلى اللغة. لا يكفي أن نحتفي بها في يومٍ واحد، أو نغني لها في مهرجان ثقافي. يجب أن نعيدها إلى التعليم، إلى الجامعات، إلى مختبرات العلم. أن نربطها بالمعرفة لا فقط بالتراث. أن نمنحها حضورًا في وسائل الإعلام الحديثة، في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، في المحتوى الرقمي، كما منحها الأوائل حضورًا في الطب والهندسة والفلك.
إنّ إحياء العربية لا يكون بالبكاء على ما فات، بل بإعادة إدماجها في قلب الحياة. بحملها إلى المستقبل لا فقط إلى المتاحف. فاللغة كائنٌ حي، لا يموت إلا إذا تركه أهله دون أن يلتفتوا. وحين نفقد لغتنا، لا نفقد فقط وسيلة للتعبير، بل نخسر طريقةً للفهم، ومفتاحًا لرؤية العالم، وصوتًا يقول: ”كنا هنا… وما زلنا“.
فالعربية ليست ما نقوله فقط، بل ما نكفّ عن قوله حين لا نجد بديلاً لها. هي ما نبنيه حين نحميها، وما ينهار فينا إن تخلّينا عنها.