طامةُ الذّكاء الاصطناعيّ!
قَد يكونُ في بَعضِ الأحيان أجملُ شعورٍ للإنسان هو أنْ يريحَ عقله قدر الإمكان، يمتعه بشعور الاسترخاء في أغلب الأوقات، لا يمرنه أبدًا، ولا يسعى لتطويره وتثقيفه وتقدمه، لا يغذيه غذاء صحيًّا أبدًا، فعلى سبيل المثال، يغذيه بالحلويات بدلًا من «الجوز»! فيخرج «بلا فائدة»!
في ظلّ الأحداث الأخيرة، وعند الحديث عن ذلك، أشير قاصدةً بالمقدمة السابقة إلى خطورة الذكاء الاصطناعي، فنرى في الآونة الأخيرة ما أستطيع أن أُطلِقَ عليه هذا المسمى الواقعي جدًا: «غزو الذكاء الاصطناعي»، فنرى بطبيعة الحال أنّ الذكاء الاصطناعي قد غزى عقولنا، وعِلمنا، وثقافتنا، ونرى أنّ ذلك يتطور يومًا بعد يوم، يحمل الخطورة على عقول الجيل الجديد، كلّ شي يأتي لهم على «طبق مِنْ ذهب»، لا يطورون عقولهم، ولا يسعون للبحث والتعلم، مهارة البحث وإخراج المصادر تكون مفتقرة لديهم، ومادة المصادر قد لا يتقنونها، فكيف لهم أنْ يتقنوها وهم يأخذون كلّ شيء بضغطة زرٍّ واحدة!
كيف يخرجون بفائدة استخراج المصادر والبحث عن المعلومات دون أن يبحثوا ويتمتعوا بالتنقل والتصفح من كتاب إلى آخر؟ كيف يتعلمون مهارة القراءة وهم لا يقرؤون، ويحصلون على الجواب جاهزًا في صفحة واحدة يطبعونها ويسلمونها لأستاذهم؟
بضغطة زرٍّ واحدة يسأل الطالب باحثًا عن الجواب من المواقع تاركًا لذة البحث من الكتب والمصادر، وبدقيق الوصف أقول: تاركًا لذة ميل الرأس للأسفل وألم الرقبة في البحث عن المعلومة ومن ثم عند الحصول عليها، رفع الرأس بابتسامة عريضة وبفخر وشغف يقود الشخص للإكمال.
بضغطة زرٍّ أخرى نرى بعض الأشخاص ينالون الجواب في المواقع، إنّني لطالما أتساءل، كيف لطالبٍ لا يقرأ ولا يبحث ليحصل على الإجابة أن يخرج بفائدة؟ كيف سيتعلم المهارات؟ كيف سيكون ذلك الطالب مستقبلًا معلمًا يرسخ المعلومات في أذهان الطلاب وهو أساسًا لا يقرأ، ولا يبحث، ولا يتثقف، ويسعى. يقبض على الإجابة بيدٍ ساخنة متحمسة، خائفة من رحيل ذلك الجواب من جهازه الإلكتروني الذي يستعمله لقراءة ذلك الجواب الّذي ناله عبر المواقع! كيف مستقبلًا سيعلم طلابه؟ كيف سيبني عقول الجيل الجديد وهو بهذه الكيفية؟ هل سيكون خارجًا بفائدة من وراء تلك المواقع الاصطناعية؟
هناك أمثلة عديدة وكثيرة تبيّن غزو وخطورة الذكاء الاصطناعي، فليس فقط الطلاب متضررين، فهذا الضرر قد يصيب غير الطلاب، نرى أنّ بعضًا من الناس أصبحوا يلجأون إلى الذّكاء الاصطناعي، حتّى في مسائلهم الشخصية والحياتية، فمنذ بضعة أيّام نرى في مواقع التواصل الاجتماعي محادثة لشخص سأل الموقع سؤالًا مصيريًّا وأشاد بإجابته وطبقها وأوقف حياته عليها. أيضًا نرى أنّ من خلال الذّكاء الاصطناعي يخترعون محادثات ومقاطع غير حقيقية، ومشاهدًا تثير المشاكل وهي بالأساس ليست صحيحة. البعض يبنون على تلك ”التخمينات“ الغير دقيقة مسائلهم الشخصية وأمور حياتهم ومستقبلهم.
وهنا نرى خطورة ذلك الذكاء الاصطناعي على العقول، والتعليم والثقافة، والحياة بأكملها.
عند الحديث عن اللغة العربيّة لغة القرآن، والذكاء الاصطناعي، أرى أنّ ثمة أمور كثيرة توضح الذكاء الاصطناعي بالنسبة للغة العربيّة، وقد تكون تلك الأمور يراها دارس تخصص اللغة العربيّة وآدابها أكثر من الغير متعمقًا في ذلك المجال والعلم الجميل، وكَوني أدرس ذلك التخصص والبحر الجميل، أرى أنّ هناك صراع للهوية في العصر الرقمي، فالتكنولوجيا أصبحت تتعامل مثل الإنسان بالدرس والاستيعاب والفهم، وتلك نقطة تحول عميقة وخطيرة. التطور التكنولوجي الأخير أصبح محاكاة لعمل الخلايا العصبية وعقل البشر، فالآلة أصبحت تفهم الجملة وتستوعب المعنى وتجيب عن الأسئلة، دون جهد العقل الباطني.
من رأيي الذّكاء الاصطناعي بطبيعة الحال قد يصعب عليه التعامل مع اللغة العربيّة بعمقها وحجمها الكبير، صحيح المواقع يمكنها أن تمد الطالب بالأجوبة، لكن يصعب عليها أنْ تمده بالتحليل الأدبي العميق بالشكل المطلوب.
ومثالًا على ذلك، هناك تحديات للذّكاء الاصطناعي في كتابة الشعر، منها الإبداع، أي الأصالة والابتكار في الشعر، والتفاعل مع القوافي، والإيقاع الداخلي أي التناغم بين الإيقاع والمعنى، والموسيقى. والتميز أيضًا يُعد من الصعوبات والتحديات في كتابة الشعر على الذّكاء الاصطناعي، كذلك اللغة الشعريّة والعمق العاطفي.
كلّ تلك التحديات تتضح عند الحديث عن اللغة العربيّة والذّكاء الاصطناعي. عند الاستعانة بأحد المواقع لإخراج أبيات شعرية باللغة العربيّة الفصحى عن موضوع الغزل العاطفي، نتفاجئ بإجابة يجتاحها خلل في الوزن والقافية وافتقار للتّوحيد في الأبيات، وكسور في القوافي، وافتقار في التمييز بين البيت والشطر، فأرى من وجهة نظري حتّى وإن كان الذّكاء الاصطناعي يواكب التطور، إلّا وأنّه في اللغة العربيّة ليس دقيقًا ومتميزًا، فهي لغة ذات بحر عميق وكبير، يفهمها ويتقنها الدارس والمتعمق في ذلك العلم الجميل، ومن أبرز تحديات تطبيق الذّكاء الاصطناعي بالعربيّة، هيمنة اللغة الإنجليزيّة في مجال الذّكاء الاصطناعي، وقد أدت هذه الهيمنة إلى عدم وجود اهتمام كافٍ لتطوير النماذج الخاصّة بالعربيّة؛ مما ساهم في نقص النماذج المتخصصة التي يمكن أنْ تفي باحتياجات المتحدثين بالعربيّة، وتلبي متطلباتهم، كما أن تنوع اللهجات العربيّة قد يكون سببًا في تلك الصعوبة.
وختامًا، إنني لا أنكر أنّ الذّكاء الاصطناعي قد يحمل ميزات منها اختصار للوقت وغيرها، لكنني أرى ألّا نعتمد اعتمادًا كليًّا عليه، ولا نعتمد عليه في الحياة اليوميّة، لكي لا يؤثر سلبًا على الجميع، وهناك أسئلة لا بد منها، تستدعي التأمل والتّفكير العميق، هل يمكننا تسخير قوة الذّكاء الاصطناعي لخدمة البشريّة دون أنْ نفقد السيطرة عليه؟ وما الدور الّذي يجب أنْ تلعبه أيّها القارئ كمستخدم أو باحث أو صانع قرار في هذا المسار المتغير باستمرار؟