درس في النجاة
جميعنا، صراحةً أو خفية، نركض نحو السعادة، لكن الغريب أننا كلما اقتربنا، ابتعدت. والأنكى من ذلك، أننا غالبًا لا نعرف حتى ما الذي نبحث عنه، ولا أين نجد هذا الذي نجهله. فقد أضعنا البوصلة في زحام الانكسارات، وصرنا نلهث خلف وهم، كلما هممنا بالإمساك به، عبر من بيننا كالسراب.
من الطبيعي أن تبدو السعادة بعيدة، لا لأنها مستحيلة، بل لأن ثمّة منغصات كثيرة في حياتنا، تجعلنا نمشي إلى الأمام، لكن رؤوسنا تظل معلّقة إلى الخلف. هذا أمر لا ينكره أحد. نحن لا نعيش في المدينة الفاضلة، ولا نحيط أنفسنا بملائكة. الضغوط موجودة، والإحباط يطرق أبوابنا بانتظام. لكن أن نعتاد الشكوى ونؤسس لها مجالس دائمة الانعقاد في دواخلنا، فهذه هي الكارثة التي تحوّلنا إلى أسرى، وتغتال قدرتنا على رؤية الضوء.
السعادة ليست نَشوة مفاجئة، بل مسار تفكير. هي طريقة ننظر بها إلى أنفسنا، لا إلى ما ينقصنا. هي في لغتنا، في مفرداتنا، في قدرتنا على انتقاء الكلمات التي نقولها لأنفسنا صبح مساء. فحين نتعلّم كيف نغضّ الطرف عن المثبطين، ونُنصت لمن يبني فينا لا من يهدم، نبدأ في تدريب أدمغتنا على خيار آخر، خيار الرضا.
نعم، الرضا. تلك الكلمة غير اللامعة في زمن المقارنات. تلك الكلمة التي لا تُشترى، ولا تُقاس، ولا تصلح للمباهاة على مواقع التواصل. لكنها جوهر كل من عرف طعم السكينة. أن ترضى لا يعني أن تستسلم، بل أن تحترم تجربتك، أن تعرف حدودك، وأن تتعامل مع نفسك كما تتعامل مع من تحب، لا مع خصم تجيد مراقبته.
تقبّل الخطأ لا يقل نبلاً عن السعي نحو الصواب. من يسقط ويقوم قد يكون أقرب إلى النضج من الذي لم يختبر الألم. ولذا، لا تطلب الكمال، بل اطلب المعنى. لا تبحث عن صورةٍ متقنة، بل عن حياة فيها أثر، فيها صدق، فيها محاولة.
ابدأ بالدوائر القريبة. أعِد تشكيل من تُحيط نفسك بهم ما أمكن..! اختر من يتحدث لغة التفاؤل، من يؤمن أن الألم ليس نهاية، بل مَعبر. واندمج في بيئة تعزز فيك الأمل، لا تعيد تذكيرك بعثراتك كل لحظة.
حين تُعلِّم نفسك كيف تنسى ما يؤذيك، وتُحسن تذكُّر ما ينهض بك، حين تتوقف عن مقارنة نفسك بمن تعتقد أنهم سبقوك، وتبدأ في مرافقة من يشبهونك في نظرتهم للحياة، لا شكّ أن طريقك نحو حياة أكثر صفاءً سيتشكّل، وبخطى ثابتة.
نحن انعكاس لما نؤمن به. وإيماننا بأن القادم يحمل خيرًا، وأن كل تجربة مررنا بها كانت درسًا، فإننا بهذه الكيفية نعيد تعريف السعادة من جديد، لا كغاية بعيدة، بل كرفيقة طريق. السعادة، إذًا، ليست قابلة للمقارنة. هي فردية، خاصة، تُصاغ بلغتك أنت، لا بلغة الآخرين الذين لا يعرفون عنك إلا القليل.
وإذا وافقك الحظ، ونجحت في العثور على هذه اللغة بداخلك، فلن تعود في حاجة إلى أي مقياس خارجي لتعرف أنك بخير.