خدمة المستمعين
فيما يُروى أنّه حديثٌ قدسيّ، سأل النبيّ موسى عليه السّلام ربّه وقال: ”أسألك أن لا يذكرني الناس بسوء“، فأتاه الجواب: ”يا موسى، هذا شيء لم أجعله لنفسي، أفجعله لك؟“. انتهى النقل لمضمون الحديث القدسي، والذي نستشفُّ منه، وكما هو معلومٌ أن أيّ شخص صدعَ بالحقِّ، فإن أهلَ الباطل سيتكلّمون عليه ولن يدعوه وشأنه؛ وأيّ شخص تكلم بالباطل فإن أهلَ الحقِّ سيتكلّمون عنه ليتفادوا مآربه. إذاً، الكل من الناس عُرضةٌ لألسن الآخرين، وعليه: إن كان الكلام الذي تكلم به الآخرون كلامًا موضوعيًا ونقدًا بناءً، فهذا أمرٌ جيدٌ ومن المفترض أن يُوظَّف لما فيه نفعٍ لصقل شخصية المُنتقَد لصنع الأفضل. وإن كان النقد بهدف التهشيم والتهميش والتثبيط والشوشرة، فليتركه الإنسان خلف ظهره ويتجاوزه ويمضي نحو إنجاز الأعمال الصالحة.
أبعث برسالة شكرٍ وثناءٍ ومحبّةٍ وإطراءٍ لكل أصحاب المجالس ودور العبادة والديوانيات العلمية والأخلاقية والروحية. والشكر ممدودٌ إلى كل الكوادر والمتطوعين والباذلين دون مَنٍّ أو أذى أو رياء.
وكان لزامًا ملامسة المحتوى المطروح في تلك المجالس والديوانيات بعناوين مثل: استشعار القيمة، واستنطاق الأهداف، وترسيخ روح النقد البناء، وزرع الأمل، واستيضاح الغايات، وتجديد الخطاب، والارتقاء بالمعالجات.
تتمتع معظم الشركات والفنادق والهيئات والمطارات والأماكن ذات التنظيم الإداري الراقي والنوعي والفعال بوجود قسمٍ يحمل عنوان: خدمة المراجعين/خدمة النزلاء/خدمة المسافرين/خدمة الزبائن، وهو متخصصٌ لسماع صوت المراجعين/النزلاء/المسافرين/الزبائن ومُعالجة نقدهم بطريقةٍ فعّالة. في بعض المجالس والديوانيات يعقد المحاضر جلسةً ختامية في نهاية أي دورة/موسم/مهرجان لتقييم الأداء عبر الإصغاء لما قاله ويقوله المستمعون بهدف تحسين الأداء في الموسم القادم. تسجيل ملاحظات الحضور في الأداء للمحاضرين ورفع الكفاءة والحفاظ على جودة الندوات واللقاءات وتطوير البرامج أمرٌ حيويٌّ ونافعٌ ومُنمٍّ، ويبث روح الاستمرارية.
في بعض المجتمعات لا توجد ثقافة ”قيّمني“ «Rate me» لأداء المحاضر أو إمام المسجد أو الواعظ أو الخطيب أو المطوف، كما هو الحال في شركات الخدمات من الفنادق والمطاعم والمواصلات والمستشفيات والقطاع الخاص. إن انعدام أو تفشي محاذير ردود الفعل أو طمس ثقافة التغذية الراجعة لأداء الآخرين عند تصدّرهم شأنًا في المحافل الثقافية والعلمية والأدبية والتربوية والروحية… أدى إلى توطينُ الوهنِ وتجذير المجاملات واعتزال روح النقد البناء والخشية من تبعات الإدلاء بالرأي الموضوعي.
في بعض المجتمعات، يُطرح النقاش بشكلٍ موسميٍّ ودوريٍّ وبصوتٍ خافتٍ وخجولٍ في أكثر من ديوانية رقمية وواقعية عن أفضل أداء وأحسن محتوى للموسم العلمي والروحي والتوعوي والفكري في نهاية/مطلع أول شهر من كل عام هجري جديد. وتُعطى انطباعات وتحليلات، ويحدث نقاش كلامي ونقد متأرجح بين كلام عاطفي وكلام موضوعي. ناهيك عن تسجيل مواقف أشخاص مذبذبة بين محبٍّ غالٍ ومبغضٍ قاليٍ لبعض المحاضرين.
في كل موسم عبادي، يُنوّه أكثر من عالمٍ ربّانيٍّ على ضرورة حسن التحضير وسلاسة الطرح والابتعاد عن المغالاة والتنفير، مما يوهن القيم والدعوة إلى التمسك بالأخلاق المحمودة والتقيد بالأحكام الشرعية خلال وقبل وبعد موسم محرم الحرام، وموسم شهر ذي الحجة، وموسم شهر رمضان المبارك؛ إلا أننا ما زلنا نلاحظ تذبذبًا في أداء البعض من المحاضرين والحضور، وتدحرجًا في أداء آخرين، وصعودَ نجمٌ مُلفِتٌ للبعض الآخر. فتارة يُقال إنه قد يكون سقف المواضيع محدودًا أو محددًا في بعض الأمصار؛ وتارة يُقال قد يكون اطلاعُ المحاضر محدودًا وذو ضُمور أو مرتبكًا. وقد ينطبق على المحاضر وصف ”متحدث حسب الترند“، وهو مصداقٌ من مصاديقِ كتاب «إسلام السوق - مؤلفه باتريك هايني». وطبعًا هناك محاضرون نخبويّون ومحاضرون شعبيّون وأكاديميّون وموسوعيّون.
ليس فقط وفرة المعلومات وقوة الأدلة التي بيد المتحدث والتحضير الجيد ووضوح نبرة الصوت وإجادة وزن إيقاع النبرات وتنوع طبقات حنجرة المتحدث أو المحاضر هم ما يجعله ناجحًا وجذّابًا ومؤثرًا، بل إلى جانب ذلك توجد أمور أخرى ومنها:
1. الوعي ونشره
﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ…﴾ [آل عمران -164]
2. إجادة فهم فقه الحياة ونشره
«العارف بدينه لا تهجم عليه اللّوابع» الإمام الصادق
3. حسن إبراز الهوية وتجذير قوّتها في نفوس المستمعين
4. أصالة الخطاب وتنوّع الطرح وتماسك نسيج السردية وشمولية المعالجة
5. بناء روح التفكير الإيجابي لدى المستمعين
«تفكر ساعةٌ أفضل من عبادة عام» رواية عن آل محمد
6. التركيز على تجذير السلوكيات المحمودة والأخلاق السامية
7. التأصيل لروح الورع والتقوى والزهد والانتماء الجماعي
• محاضر تاريخي
• محاضر علمي وفلسفي
• محاضر تربوي اجتماعي تحفيزي
• محاضر فقهي
• محاضر عقائدي
• محاضر متخصص في رد الشبهات
• محاضر متنوّع
• محاضر في علوم الأخلاق
وهم الأكثر حضورًا ومشاركة في دور العبادة. وهناك تصنيفات أخرى لمحاضرين آخرين، نورد منها على سبيل المثال لا الحصر: محاضر علاقات دولية، محاضر اقتصادي، محاضر علوم نفسية…
الخطاب المواكب للحدث والواقع المُعاش هو الخطاب الأكثر تأثيرًا وتفاعلًا من الجمهور. وعادة ما يطرح المحاضر محاضرته لدفع شبهة أو توضيح مسار أو إلقاء توجيه وإرشاد أو إعطاء تزكية أو تهيئة نفس أو تهذيب سلوك أو ترسيخ قيم أو تأصيل معتقد أو تشجيع جمهور أو تمرير معلومة أو غرس خصلة. والتأثير لأي متحدث يعتمد على عدة أمور منها: فنّ الإلقاء وفنّ الإقناع وجهورية الصوت وإجادة استخدام أدوات الجذب وقوّة حبكة السردية وأهمية موضوع الخطاب وثراء الأدلة.
نموذج موسم أول
• الجلسات الثلاث الأولى: عقائد
• الجلسة الرابعة: نقاش النبوة
• الجلسة الخامسة: الإمامة: هل هي تنصيب أم اقتراع؟
• الجلسة السابعة: الشجاعة بين الاستفزاز والحلم
• الجلسة الثامنة: الشباب وتحديات العصر
• الجلسة التاسعة: معالجة شبهات عقائدية معاصرة
• الجلسة العاشرة: الحسين والعولمة الفكرية
• الجلسة الحادي عشر: نقاش مفتوح
نموذج موسم ثانٍ
• الجلسات الثلاث الأولى: تربية
• الجلسة الرابعة: نقاش مبانٍ التوحيد
• الجلسة الخامسة: بحث تاريخي مربوط بالواقع لترسيخ القيم السامية
• الجلسة السابعة: دفع الشبهات المعاصرة والعدل الإلهي
• الجلسة الثامنة: الشباب وتحديات العصر
• الجلسة التاسعة: اليقين وعالم الشبهات «السَّنا على الحقّ»
• الجلسة العاشرة: التضحية لله والتضحية بهدف الرياء
• الجلسة الحادي عشر: نقاش مفتوح
ويمكن إدراج نماذج أخرى، إلا أنني أكتفي بالأمثلة أعلاه.
ملاحظة:
1. كثرة النقد السلبي التضخيمي من قبل المحاضر لأي حادثة/حدث على بعض المنابر يسلب المجتمع روح التفاؤل ويخنق الأمل في النمو ويُفسد حسن الظن.
2. اعِتداد المحاضر بنفسه وعلمه وطرحه قد يخنق روح تقبل النقد لديه ويُحجب فنّ الإصغاء، ويصبح حَينذاك طرحه ومحاضرته أقرب للكلام مع ذاته.
3. بعض المحاضرين يستنزفون انتباه المستمعين عند إغراق مسامعهم بالمفردات والمصطلحات العلمية والفلسفية الصعبة على عامة الناس. وبهذا يفقد المحاضر شغف متابعة جزء ليس بالقليل من الحضور لمحاضراته. الحرص على تبسيط المفردات ليسهّل هضم المحاضرة من قبل أكبر قدر من المستمعين أمرٌ محل تقدير.
4. أخي المحاضر، أفراد مجتمعك سيتذكّرك ليس بشهاداتك وقوة إنشادك وطول قامتك… ولكن سيتذكّرك بأخلاقك ووفائك وجميل المحتوى الفكري الذي شاركت به والمشروع الروحي الذي أنجزته والطّرح السلوكي الذي ساهمت في ترسيخه.