آخر تحديث: 27 / 7 / 2025م - 3:34 م

الوفاء المؤجل.. أزمة في التقدير أم في الضمير؟

سامي آل مرزوق *

اعتدنا في مجتمعاتنا أن تٌسلط الأضواء وتٌستحضر أبلغ العبارات عند رحيل شخصية اجتماعية بارزة، تُنظم لها المجالس، وتٌنشر عنها القصص والمواقف، وتٌسطر في حقها الكلمات الرنانة، بينما في حياتها كانت تمر بيننا بصمت، تعطي وتُصلح وتبذل دون أن تنال من التقدير ما يليق بجميل أثرها، وكأن الموت في هذا السياق هو وحده من يوقِظ الوعي المجتمعي المتأخر تجاه أصحاب الفضل.

الأكثر غرابة أن هذا السلوك لا يعكس فقط تقصيراً عابراً، بل ينطوي أحياناً على مظاهر رياء اجتماعي تتجلى في تصدر من لم يكن لهم في حياة المتوفي علاقة تُذكر، تراهم في مقدمة الصفوف يتحدثون عن المواقف والذكريات التي لم يسمع بها أحد، وينشرون صوراً ومقولات تبدوا وكأنها محاولات لإثبات حضور متأخر في حياة لم يشاركوا فيها حقيقة، يزاحمون على نعشه ويُشيعون محبة من ورق بينما فاتهم أن الكلمة الطيبة في الحياة، والدعم المعنوي في وقت الحاجة هما أعظم ما يُهدى للإنسان.

ما يحدث ليس مجرد خلل فردي بل هو علامة على أزمة في الوعي الجمعي تجاه قيمة الإنسان وتوقيت الاعتراف بفضله كيف نغفل عن المخلصين في لحظات عطائهم؟ ولماذا لا نحتفي بالمتميزين إلا بعد أن يعجزوا عن سماع كلماتنا؟ هذه الأسئلة باعتقادي تلامس جوهر واقع السلوك الإنساني ومدخلاً ضرورياً لتفكيك الظاهرة ومعالجة جذورها، هي ظاهرة قديمة متجددة وهناك الكثير من طالبوا بها.

عندما تأمل الواقع، نرى أن الشخصيات الباذلة التي تعمل بصمت وتُحدث أثراً ملموساً في حياة الناس، غالباً ما تعيش الظل، لا يلتفت إليها المجتمع إلا حين تُغادر، وحينها تبدأ حفلات التكريم المتأخرة، وتكتب المقالات، وتُطلق أسماءهم على المدارس والشوارع، وغيرها..، وكأن الاعتراف لا يحل ضيفاً إلا إذا غاب المحُتفى به جسداً، هذا النمط من السلوك يكشف خللاً في إدراك التوقيت الأخلاقي للتقدير، فالأصل في الوفاء ألا ننتظر الوداع الأخير لنعبر عن امتناننا، بل نٌبادر بالعرفان فاللحظة المناسبة في وقت يكون فيه صاحب الفضل حاضراً، يسمع ويشعر ويتأثر قال جل وعلا ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ الرحمن آية 60، فالآية الكريمة تحث على المقابلة الفورية للإحسان، لا تأجيلها على ما بعد فوات الأوان، ولعل من أسباب هذا الخلل أن بعض الناس لا يُدركون إلا بعد رحيلهم لأنهم لم يسعوا إلى الشهرة أو تسويق الذات، حيث ”الناس أعداء ما جهلوا“، فكثير من أهل الخير يُظلمون لأنهم لم يُعرفوا، لا لأنهم لم يعملوا، يعيشون نبلاً صامتاً بينما تحتل الواجهة وجوهٌ تجيد فن الظهور لا عمق التأثير.

ولعل أخطر ما في الظاهرة أن يُفسح المجال بعد الوفاة لمن لم يكن لهم صلة بصاح الأثر، ليحتكروا المشهد الخطابي والعاطفي، بدافع التزلف أو حب الظهور، هؤلاء لا يضيفون للفقيد كرامة بل يسرفون من الموقف صدقه ”من لا شكر المخلوق لم يشكر الخالق“، فالشكر للمخلوق في حياته هو عبادة، وشهادة نزيهة على نعمة جعلها الله بين الناس، وإن غاب هذا الشكر في وقت الحاجة فلا طائل من حضوره بعد الرحيل.

وتعري هذه الآية الكريمة هذه المظاهر المصطنعة، قال جل وعلا ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات آية 17]، فمن يتصدر مجالس العزاء دون سابقة وفاء، يُمارس منا اجتماعياً لا صلة له بالصدق أو الإخلاص، وهو نوع من التفاخر الكاذب.

في المقابل، نجد في سيرة النبي الأكرم نموذجاً راقياً في تقدير الأحياء، إذ كان يُشيد بأصحابه في حضورهم، ويذكر فضلهم أمامهم ويُشعرهم بقيمتهم وهم أحياء يرزقون، لا ينتظر مماتهم ليعترف بجميلهم، هكذا تُبنى مجتمعات الوفاء، لا على خطب التأبين، بل على ثقافة التكريم في الحياة.

وهنا تبرز الحاجة إلى نشر ثقافة التكريم في حياة الناس، لا بعد وفاتهم فقط، الإعلام، المؤسسات، المدارس بل وحتى البيوت، ينبغي أن تعزز هذه الثقافة وأن تزرع في الأذهان، أن الاحتفاء بأصحاب العطاء وهم أحياء هو خلق كريم وليس مجرد فعل رمزي، كما أن إقامة منتديات ومبادرات أهلية دورية لتكريم النماذج الاجتماعية المؤثرة، تصنع ذاكرة مجتمعية نابضة، وتخلق وعياً تراكمياً بقيمة العمل الصالح.

ليس الموت هو اللحظة التي يُعاد فيها الاعتبار، بل الحياة هي المساحة الأصلية التي يجب أن نُفعل فيها قيم الوفاء والتقدير، إن تكريم الإنسان لا يتمثل في تأبينه بعد رحيله بل في دعمه وهو يُقدم، ومواساته في ضعفه، وتثمين أثره، في مجاله، ما عدا ذلك فهو تزييف لمعادلة الخلاق، وتحويل التقدير إلى أداء شكلي لا روح فيه، آن لنا أن نُعيد النظر في نظرتنا لمفهوم التكريم، وأن نعلمه للأجيال القادمة بوصفه قيمة حية، لا فقرة ختامية في وداع من كان يوماً بيننا.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
عبدالله آل دهنيم
11 / 7 / 2025م - 11:14 ص
صدقت والله كثير من أهل الفضل ينسون في حياتهم وإذا راحوا صارت ذكراهم على كل لسان! التقدير المتأخر ما ينفع اللي راح ينفع بس للرياء.
2
سعيد الصفار
11 / 7 / 2025م - 3:01 م
فعلا أشوف ناس ما أحد زارهم ولا سأل عنهم وإذا ماتوا الكل يكتب عن أثرهم الطيب! طيب وينكم أول؟! الوفاء ما يصير ترند.
3
علي حسين آل خليفة
11 / 7 / 2025م - 9:10 م
اقتراح إقامة منتديات لتكريم الأحياء ممتاز ونحتاج تبنيه كمشروع محلي. التكريم الحي يحيي والتقدير المتأخر مجرد عزاء ضمير.