بيئة العمل الصحية.. من يداوي؟
في مشهد الرعاية الصحية المتطور، لا يزال الممارس الصحي يقف في الخط الأول، ليس فقط أمام المرضى، بل أيضًا أمام موجات الضغط الإداري، وتقلّبات السياسات، وأعباء لا تنتهي. ومع أن الاعتراف بظاهرة الاحتراق الوظيفي أصبح أمرًا شائعًا، إلا أن ذلك الاعتراف يفتقر إلى الجدية حين يُترك دون خطة حقيقية لتغييره، بل يُوظف أحيانًا ضمن مسارات تحول غير معلنة، فيُصبح الإنهاك سلاحًا صامتًا، يُستخدم لإعادة تشكيل المنظومة على حساب من يديرها.
في تعريفها البسيط، تعني بيئة العمل الصحية أن يشعر الموظف بأنه محمي ومُقدَّر وغير مهدَّد. لكنها اليوم أصبحت تختزل في مجرد غياب الاعتداء الجسدي أو اللفظي، بينما تُهمل أسسًا أكثر جوهرية: مثل وضوح التوصيف الوظيفي، والعدالة في توزيع المناوبات، والإنصاف في التقييم والترقية، ووجود قنوات تظلم آمنة، وإشراك الكوادر في قرارات تمس حياتهم ومهنتهم.
الاحتراق لم يعد نتيجة عشوائية في بعض السياقات، بل أصبح وسيلة غير مكتوبة لتصفية المراحل، واستبدال الكفاءات المكلفة بعقود مؤقتة منخفضة التكاليف. يُغضّ الطرف عنه لأنه يخدم مسارًا لا يُعلَن، لكن يُقرأ من الممارسات اليومية: من تهجير الموظفين ذوي الرواتب العالية نحو التقاعد المبكر أو القطاع الخاص، إلى تحجيم القيادات التي يصعب السيطرة عليها، إلى تدوير الكفاءات دون تمكين حقيقي. فالمنهَك لا يطالب، والمحبَط لا يعارض، ومن لا يشعر بالأمان لا يطمح لشيء سوى النجاة.
النتائج المتراكمة لهذا الإنهاك لا تتوقف عند حدود الفرد، بل تنعكس على النظام ككل: مهنيًا، يتراجع الأداء وتزداد الأخطاء، ويتحول الطبيب أو التمريضي إلى مؤدٍ ميكانيكي بوعي مُنهك. اجتماعيًا، يتضرر التوازن الأسري والنفسي، ويغدو البيت امتدادًا للضغط لا مساحة تعافي. أمنيًا، تتكرر حالات العنف ضد الكادر، خاصة حين لا يجد المراجع مَن يستمع له، ولا يجد الموظف مَن يحميه. اقتصاديًا، ترتفع التكاليف التعويضية والتدريبية، ويتآكل الولاء، وتُهدر الميزانيات دون نتائج قابلة للقياس. وقد وثّق تقرير للبنك الدولي أن الأنظمة الصحية التي تهمل رفاه كوادرها تفقد أكثر من 20% من كفاءتها التشغيلية خلال خمس سنوات، ما يترك فجوة يصعب ردمها مهما ارتفعت كفاءة الأجهزة.
لكن الحل ليس مستحيلًا، إنما يتطلب شجاعة التغيير في الذهنية قبل الأنظمة. إذ لا يمكن بناء بيئة محفزة بقرارات فوقية دون أن يُشرك فيها من يعيشون تفاصيلها. الإصلاح يبدأ بإدارة تشاركية شفافة، تتيح للممارسين تقديم الحلول لا الاكتفاء بتنفيذ التعليمات. ويستدعي أيضًا إعادة النظر في جداول العمل بما يراعي اختلاف الأعمار، والوضع الأسري، وعدد سنوات الخدمة، بل ويستوجب تأسيس وحدات داخلية مستقلة للرفاه المهني، تُعنى بتتبع مؤشرات الإنهاك، والحد من التظلمات، ومنح الموظفين شعورًا بالحماية، كما أن المكافآت الحقيقية يجب ألا ترتبط فقط بمن يُجيد الحضور الرقمي أو ينال التزكية، بل بمن يحمل العمل على أكتافه في الميدان.
التجارب الملهمة موجودة، لمن أراد أن يسترشد بها. في سنغافورة، أُنشئت وحدات للدعم النفسي في كل منشأة، وخُفضت المناوبات الليلية، ومنحت الكوادر إجازات راحة سنوية مدفوعة لتحسين الصحة النفسية، ما أسهم في خفض الأخطاء الطبية بنسبة 40%. وفي السويد، أصبح رضا الموظف أحد مؤشرات الأداء التي يُحاسب عليها المدير مثلما يُحاسب على التكاليف والجودة، ما عزّز الولاء وقلل التسرب المهني.