ناعي سيهات.. كيف ننعى رحيلك؟!
أفاقت بيوتات سيهات صباح الثلاثاء الثالث عشر من شهر محرّم الحرام لسنة ألفٍ وأربع مئة وسبعة وأربعين للهجرة على ذلك الخبر الأليم الذي نزل كالصاعقة علينا جميعًا، وما إن توالت الرسائل تباعًا في وسائل التواصل الاجتماعي تأكيدًا لذلك الحدث المفجع والمصاب الجلل، برحيل عميد المنبر الحسيني، سماحة الخطيب الكبير الشيخ أحمد بن منصور الخميس - قدّس سرّه - عن عمر ناهز 95 عامًا، قضى جلّها في خدمة مجالس أهل البيت - عليهم أفضل الصلاة والسلام - وتبيان العدل في قضية الإمام الحسين، وما وقع عليه وأهل بيته وأصحابه - سلام الله عليهم جميعًا - من مصائب، وما تبِع ذلك من شدائد وأهوال لا يستطيع وصفها واصفٌ في جميع الأحوال.
نعم، لقد رحل ذلك الرجل الوقور، تاركًا في نفوسنا نحن السيهاتيين، بل وأهل القطيف والمنطقة كافة، إرثًا كبيرًا عظيمًا رفيعًا هائلًا من المبادئ الأصيلة والقيم السامية، والخلق الرفيع، والسلوك الحميد، والسيرة العطرة، والآداب الفاضلة، وهذه مجتمعة تمثل بعضًا من فيض خصائصه ومميزاته وخصاله - رحمه الله - فمنذ نعومة أظفارنا، كانت عذوبة صوته الشجيّ تُخالج مسامعنا، وكانت أبيات شعره وقصائده تلامس أحاسيسنا ومشاعرنا، وكذلك أسلوب طرحه وخطابه البليغ قابع في أعماق نفوسنا، حتى باتت شوارع سيهات القديمة بطرازها ومعمارها، ورائحة نخيلها وأزقتها، مقترنة بشخصه وذكره ولهيب نواعيه وأجيج رثائه.
أيها الإخوة المؤمنون، إن الراحل الكبير - لا شك - هو أحد الخطباء البارزين الأعلام في منطقتنا لتلك الحقبة الراهنة، وهو من العمالقة والأساتذة المتميّزين والمتألّقين في منظومة الإعلام الحسيني التوعوي والتربوي، لما يحظى به من سماتٍ شخصية لافتة وظاهرة للعيان، ناهيك عن فصاحة لسانه، وقوة بيانه، وغزارة علمه، ووفرة اطلاعه، وعمق ثقافته. وكل هذه المناقب والمزايا، صقلتها الأيام والسنون، وتراكمت وتكوّنت من وحي العلوم التي جنى ثمارها من خلال مسيرته المباركة، حتى وصل بعدها إلى خبرةٍ شاهقة، وممارسةٍ فائقة، استمر أثرها وامتدّ شأنها الميمون لعقودٍ طوال، أثْرى من خلالها الساحة الدينية بمعارف جمّة، ومناهج طيبة صالحة، وأفكارٍ نيّرةٍ مضيئةٍ مستقيمة.
إنّ المغفور له - بإذن الله تعالى - هو ظاهرة فريدة من صنفها، ناهيك أن محطات حياته وسيرته العطرة تُعدّ حركةً استثنائيةً إنسانيةً أخلاقيةً فكريةً وثقافيةً جديرةً بالعناية والمتابعة والاهتمام. فالمتتبع لهذه القامة الشامخة والفذّة، التي قلّ نظيرها في زمننا الحاضر والمعاش، يجد فقيدنا العزيز - أعلى الله مقامه الشريف - أنه كان خطيبًا بارعًا، وباحثًا ماهرًا، حاذقًا، مفوّهًا، ولكن ليس هذا فقط، إنّما هو شاعرٌ وكاتبٌ مخضرم، وأديبٌ مطّلع ذو آفاقٍ عديدة وواسعة، وله عدة مؤلفات، منها: الأسى في رثاء أهل الكساء، وله أيضًا كتاب معنْوَن باسم المجالس العاشورائية، وغيرها من الدراسات القيّمة بهذا الصدد.
الإخوة الأعزّاء، قبل أن نختم هذه الكلمات في هذا المقال، لا يسعني إلا أن أؤكّد جازمًا أنه لا طاقة للقلم أن يكتب سيلًا من الجمل والمفردات، ولا للمرء قدرة أن يعبّر عمّا تستوجبه تلك النائبة العظيمة الشديدة من حزنٍ وأسى وآلام، ولا للقلب أن يُخفي أسفه وحسرته من بأس المصاب، ولا للمشاعر أن تتجاهل ما حلّ وحدث لأهلنا بأرضنا الحبيبة سيهات، لفقد شيخنا وقدوتنا وعزيزنا سماحة الشيخ الخطيب الكبير ملا أحمد بن منصور الخميس. فمهما قدّمنا من إبرازٍ لمحاسنه ومناقبه ووصف شخصه - رحمه الله - فلن نستطيع أن نوفّيه ولو جزءًا يسيرًا من حقه علينا من التبجيل والتقدير والمحبة والاحترام والإشادة والثناء.
وختامًا أيها القرّاء الأعزّاء، نقول: الحمد لله رب العالمين، اللهم ارفع درجته في أعلى عليين، وأخلِف على عقبه في الغابرين، وعندك نحتسبه يا رب العالمين. اللهم أنزله منزلًا مباركًا وأنت خير المنزلين، اللهم أنزله منازل الصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. اللهم اجعل قبره روضةً من رياض الجنة، اللهم اغفر له وارحمه برحمتك يا أرحم الراحمين، ولأهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان، إنك وليّ ذلك والقادر عليه.
إلى عفو الله ورضوانه، أبا علي، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.