البلاءُ المبينُ
ليس كلّ من ذبحَ ولده كان إبراهيم، ولا كل من رفع يده للسماءِ كان نبيًا.. لكنّ كلّ من بكى رضيعًا مذبوحًا على صدره، قد تكسّرت له السماواتُ حُزنًا، وتضعضعت الأكوانُ وجعًا، واهتزّ العرشُ لألمه، فهو الحسين.
حدثتني جدتي، رحمها الله، وهي تفرش لنا ”السطح“ ببطّانياتٍ تئنّ تحت سطوة الزمن، وتبسط على رؤوسنا ”سرّياتها“ كأنها تعيد تشكيل التاريخ من نسيج العاطفة، فقالت: ”تخيلْ، يا ولدي، لو إنك تِشوف ولدك في ايدك، تنادي عليه، وهو ما يردّ، تحاول ترضعه دمعة، وما يبلع، تناديه بإسمه، ويغمض أكثر!“ … ثمّ يسكت، كأن قلبه اختنق قبل لسانه.
في القرآن الكريم، نقرأ عن إبراهيم، ذلك النبي العظيم، حين ابتلاه الله برؤيا تذبح الوجدان، أمرٌ لا يطيقه عقلُ أبٍ، ولا يتهنّى به جفن. ومع ذلك، قال: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى...﴾ [الصافات: آية 102].
وكان إسماعيل، في تلك اللحظة، ليس رضيعًا، بل فتى، يفهم معنى الابتلاء، ويُسلِّم للقدر، ويُجيب بأعظم ما يمكن أن يُقال: ﴿... يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: آية 102].
ثمّ تنتهي القصة، بذبحٍ عظيم بدلًا عنه، فيفدى الغلام، وتُرفَع الرؤيا عن الأب، ويعودان معًا، متعانقين، كما لو أن الجنةَ استعجلت لقاءهما قبل الآخرة.
أما الحسين؟ فلا حلمٌ أنقذه، ولا كبشَ فداءٍ نزل من السماء، ولا رداءَ أبيض لفّه بالطمأنينة.
رأى رضيعَهُ في قماطه، وهو يصرخ، لا لجرحٍ، بل لعطشٍ، فلم يُجِب أحد من القوم، حتى السهام أجابت، وكان الجواب سهمًا بثلاث شُعب، لا يخطئ نحرًا، ولا يترك حلمًا.
من كان قلبه حجرًا، فلينظر للحسين وهو يتلقى دم الرضيع بكفّيه، يرفعهما إلى السماء، ويقول: ”هون عليّ ما نزل بي، أنه بعين الله“ … أهذا لسان بشر؟ أم صبرُ نبيٍّ ضاع أنصاره، وثُكِل وليده، وسُبيَت نساؤه، ولم يبقَ معه إلا خيامٌ تحترق؟
لا لوم لمن شابَ شعرُهُ برؤيا، لكن أيّ رؤيا هذه التي يكون واقعها أشدّ من ألف حلم؟
قيل إنّ رأس إبراهيم قد شاب بكامله من هول الرؤيا.. فكيف بالحسين، وهو لا يرى حلمًا، بل يعيش مذبحًا مفتوحًا على جسده؟ مذبحًا يبدأ من علي الأكبر ويمرُّ بالقاسم، وينتهي في صمت الرضيع؟ كلّهم في كفّيه، ودماؤهم حبرُ شهادته.
وإذ نسمع قول الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: آية 106]، نقول: بلى، يا رب، بلى… ولكن ما ذاقه الحسين، فوق كلّ بلاء.
فلا عجب أن يتوسل إلى السماء: ”اللهم لا يكون هذا أهون عليك من فصيل ناقة صالح!“
ما أوجع هذا القول، حين يصدر من ابن بنت نبيك، يحمل دمًا رسوليًا، ونَفَسًا من طه.
في كربلاء، لم يكن الحسين يبكي فقدًا شخصيًا، بل يرثي أمةً نامت عن كرامتها، وصمتت عن رضيعٍ يُذبَح بين ذراعي نبيّها، ولم تهتزّ.
هل هذا ذبحُ رضيعٍ؟ أم ذبحُ وجدانِ أمةٍ بأكملها؟
في كل موسمٍ من محرم، حين تُسدل ستائر المجالس، ويتعالى نشيدُ ”يا حسين“، أتأمل نظرات الآباء إلى أطفالهم، وأفكّر: أيُّ قلبٍ ذاك الذي بقي في صدر الحسين بعد كلّ هذا؟
لو أن إبراهيم فُديَ برحمة، فالحسين كان هو الرحمة، وهو البلاء، وهو الفداء.
وبين ”البلاء المبين“ في سورة الصافات، و”الدم العبيط“ في صدر عاشوراء، فارقٌ واحد: أنّ الأول انتهى بكبشٍ من الجنة، والثاني.. لا يزال يُذبح كلّ يوم، فينا، حين نصمت، حين ننسى، حين ندفن الوجدان تحت تراب العادة.
كربلاء ليست قصةً لنبكي فقط، بل مرآةٌ نحاسب بها أنفسنا: كم رضيعًا ذُبح فينا دون أن نشعر؟ كم حسينًا صُلب تحت صمتنا؟ وكم سهمًا برأسين رُمي باسم الحياد؟
يا أبتِ افعل ما تُؤمر…
اللهم لا يكون هذا أهون عليك من فصيل ناقة صالح…
بين هذين القولين، تقف كربلاء كأعظم بلاءٍ عرفه الوجدان، وكأصدق دعوةٍ لا تزال تهزّ أعمدة النخوة في قلب كلّ من به بقيّة حياة.
ويا للحسين، ما أصدقه من شاهدٍ على الحقيقة، وما أحقّه بقول ربّه:
﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾