الإنسان بين العقل والعاطفة
هناك سباقٌ محموم في فنّ التعامل مع المجريات التي نعيشها في واقعنا المعاصر، بين ميزان العاطفة والعقل. وهذا اختبارٌ حساس، قد ننجح فيه ونتعدّاه إلى ما هو أحسن، أو ننتكس فيه - لا سمح الله - ونصبح في حالٍ أسوأ.
هذا يخضع لترتيب الأولويات بدراسةٍ عميقة ومتأنية من كلّ الجوانب، ووضعها على الميزان لنختار أيّ الكفّتين أرجح وأصوب، بغض النظر عن النتائج الأخرى وتداعياتها.
وتكمن أهمية هذا الميزان في عدّة جوانب، سنذكر بعضًا منها، وخصوصًا تلك الجوانب الحساسة والأكثر التصاقًا بواقعنا الحاضر؛ ومنها على سبيل المثال لا الحصر: بعض القضايا العائلية أو الاجتماعية الأكثر شيوعًا وانتشارًا.
ولنبدأ بالجانب العائلي، وربِّ الأسرة خصوصًا، حين لا يكون الآباء منصفين في حلّ قضايا أبنائهم، فتراهم يتعاملون مع بعض الأبناء بشدّة وقسوة، ويتجاهلون احتياجاتهم، وتنعدم معهم العقلانية، بينما يكونون أكثر عاطفية مع أبناءٍ آخرين، خصوصًا إذا كان لديهم أكثر من زوجة، وكانت بعضهنّ أقرب إلى قلوبهم ووجدانهم.
ينعكس هذا التحيز مباشرةً على أولادهنّ، فيحظون بحسن التعامل، والحب، والعطاء، والسخاء، والاهتمام باحتياجاتهم، بينما يُهمل إخوانهم من الأمهات الأخريات - البعيدات عن القلب والعاطفة - فلا يُلتفت إليهم، ولا يُستجاب لهم في أيّ أمر، ولا رعاية تُذكر.
هنا، تتقدّم العاطفة على منطق العقل، وتُخلق المشكلة في الواقع، ويكون ذلك سببًا في التشابك العائلي، وخلق التباغض، والتشاحن، والقطيعة. فتتجسّد الصورة التي أشرنا إليها، وهي صورة ذات وجودٍ حيّ - للأسف الشديد.
أما على المستوى الاجتماعي، فيتمثّل ذلك حين يحدث نزاعٌ ما بين طرفين حول قضية أو مشكلة اختلفت بشأنها وجهات النظر، مما يسبّب تنازعًا بين الفريقين. وفي الواقع، هناك طرفٌ يملك الحق لما لديه من دلائل وبراهين ساطعة، بينما ينكر الطرف الآخر كلّ ذلك، وقد غلبت عليه النزعة العاطفية، والعصبية، والأنانية، وأصرّ على إنكار الحقّ والحقائق الثابتة.
ينتج عن ذلك جوٌّ من التوتّر والاشتباك الانفعالي، ويؤدّي في النهاية إلى قطع العلاقات الأخوية والرحمية والتواصل، بل إلى التنافر المجتمعي، لأنّ المعاند قدّم عاطفته ووجدانه على العقل والمنطق.
وهذا ما نراه حاصلًا في يومنا هذا، وقد استشرى في دهاليز مجتمعنا، ونحن أحوج ما نكون اليوم إلى إعادة النظر في مفاهيمنا وسلوكنا، والابتعاد - قدر الإمكان - عن هذه الأجواء المشحونة، وأن نتفق على لغةٍ مشتركة، يتقدّم فيها العقل والمنطق على عواطفنا الآنيّة.
وقد صدق رسول الله ﷺ حين قال: «استرشدوا العقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا».
وكما قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب : «كفاك من عقلك ما أوضح لك سبيل غيّك من رُشدك».
والله الموفّق.