حين يُخاطبنا الدين من ثلاثة أبواب
نحتاج أحيانًا إلى أن نعيد الاستماع للدين، لا كما اعتدنا، بل كما ينبغي أن يكون: صوتًا يخاطبنا من الداخل، لا نصًا نكرره من الخارج.
في الليلة الثانية عشرة من محرم، وبينما كان المجلس الحسيني هادئًا في نبرته، عميقًا في محتواه، فتح الشيخ فوزي آل سيف «حفظه الله» نافذة مختلفة في التأمل.
بدأ من قوله تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ ، وانطلق منها نحو فكرة بديعة: أن الدين لا يتوجه إلينا من زاوية واحدة، بل يتحدث إلينا بثلاث لغات متكاملة، هي: العقيدة، والفقه، والأخلاق.
كل خطاب منها يشكّل بُعدًا من أبعاد الإنسان:
العقيدة تُخاطب العقل والروح، وتُجيب عن سؤال: ”لماذا أؤمن؟“
الفقه يُخاطب السلوك والالتزام، ويجيب عن سؤال: ”كيف أتصرف؟“
الأخلاق تُخاطب القيم والضمير، وتطرح سؤالًا أبعد: ”أيّ إنسان أريد أن أكون؟“
الشيخ فوزي آل سيف عرض هذه الأبعاد الثلاثة لا كتصنيفات، بل كاحتياجات مترابطة. فالإنسان لا تكتمل إنسانيته إن عاش على العقيدة فقط دون فقه يضبط حركته، أو التزم بالفقه دون أخلاق تنعكس في تعامله مع الناس.
نحن لا نُقاس بعدد الشعائر التي نؤديها، بل بما تُحدثه هذه الشعائر في داخلنا من أثر.
وقد تطرّق سماحته إلى نقطة اجتماعية عميقة: أن الأخلاق ليست خاضعة للمزاج، ولا مشروطة بالراحة.
ليست ترفًا نتمسك به حين تسير الأمور كما نريد، ونتركه عندما نضيق.
بل هي واجبٌ إنساني مستمر، لا يُعفى منه أحد، ولا يُبرر غيابه ضغط نفسي أو ظرف اقتصادي.
كم نحتاج إلى هذا الخطاب اليوم، في بيئة اجتماعية متوترة، حيث تنهار لغة الاحترام بسهولة، وتُستباح القيم عند أول خلاف، ويُبرَّر التنمّر والقسوة تحت عنوان ”ضغوط الحياة“.
ثم انتقل الشيخ آل سيف إلى ملمح تطبيقي لهذه النظرية في التاريخ، دون أن يُغرق في تفاصيل الوجع، بل لفت الانتباه إلى الثبات الأخلاقي وسط المحن.
استحضر صورة ركب السبايا حين دخل الكوفة، ليس ليصف المأساة، بل ليشير إلى الرسالة: أن هناك نساءً وأطفالًا أنهكهم الطريق، لكنهم لم يفقدوا كرامتهم.
وأن زينب بنت علي، رغم المصيبة، لم تتخل عن خطابها، ولا عن وعيها، ولا عن لغتها المتزنة.
كانت شامخة، لأنها مؤمنة.
ثابتة، لأنها فقيهة في مواقفها.
متزنة، لأنها خلوقة في ردّها حتى على من أساؤوا.
ما أحوجنا إلى هذا النوع من التربية اليوم: أن نعلّم أبناءنا أن الدين ليس فقط شعائر، بل منظومة متكاملة، تبدأ من الإيمان، وتُترجم في السلوك، وتُتوَّج بالأخلاق.
وأننا مسؤولون لا فقط عن معرفة الحلال والحرام، بل عن كيف نعامل الآخرين في البيت، في العمل، في الطريق، وفي الخلاف.
كربلاء، في عمقها، ليست فقط لحظة عاطفية، بل مدرسة إنسانية.
والسيدة زينب لم تكن مجرد شاهدة على المصيبة، بل كانت مثالًا راقيًا لكيف يصمد الإيمان حين تتساقط الأقنعة.
نحتاج إلى أن نُعيد فهم الدين لا من منطلق ”كم نعرف؟“ بل ”كيف نعيش ما نعرف؟“
هل نُربي أبناءنا على التوحيد؟
هل نربط عباداتهم بالسلوك؟
هل نعلّمهم أن الأخلاق ليست مكافأة على الراحة، بل خيارٌ في أصعب الظروف؟
هذا هو الدين كما يُخاطب الإنسان الحقيقي:
أن يؤمن، أن يلتزم، وأن يتجمّل… لا ليُرضي الناس، بل ليكون صادقًا مع نفسه، ومتصالحًا مع خالقه.