آخر تحديث: 31 / 7 / 2025م - 3:51 م

زينب بنت علي.. خيمة الصمود ونداء الوعي في كربلاء

عبد الله أحمد آل نوح *

في ليلةٍ تتجاوز أحزانها حدود الزمان والمكان، ليلة الحادي عشر من محرم، ينسدل الستار على فاجعة كربلاء، لكن من رحم هذا الألم ينبعث صوتٌ مدوٍ، صوت السيدة زينب ، لتصبح رمزًا للصمود، وخيمةً تجمع شتات الأمل، ومنارةً تهدي إلى أبعاد إنسانية واجتماعية عميقة، لطالما بقيت كامنة في قصص البطولة والفداء.

في مجلسٍ مؤثر ليلة الحادية عشر من محرم، استعاد سماحة الشيخ فوزي آل سيف، مستلهمًا من الآية الكريمة: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَابِ ، رؤية ثاقبة لواقعة الطف، مؤكدًا أن كربلاء ليست مجرد سرد لأحداث، بل هي منبع للعبر والدروس التي لا يدركها إلا ”أولو الألباب“؛ أولئك الذين يرون ما وراء الحكاية، ويدركون رسالة الدم المسفوك.

كربلاء: فسيفساء اجتماعية في مشهد الفداء

لطالما صُوّرت كربلاء على أنها مواجهة بين معسكرين، لكن الشيخ آل سيف كشف عن لوحةٍ غنية الألوان، تظهر التنوع الاجتماعي الفريد بين أنصار الإمام الحسين . لقد ضم ركب الحسين كل أطياف المجتمع: من الطفل الرضيع إلى الشيخ الطاعن في السن، من العبد إلى السيد، من الفارس المغوار إلى الفقير المدقع، من العازب إلى المتزوج حديثًا، ومن الأحرار الذين نشأوا على ولاية أهل البيت، إلى التائبين الذين اهتدوا في لحظة يقظة على يد الحسين . لم تكن ثورة فئة دون أخرى، بل كانت تجليًا لضمير أمة حية، كأنها دعوة خالدة لكل إنسان: ”مكانك محفوظ في الركب إن اخترت طريق الحق“.

الأبوة والبنوة: أسمى معاني التضحية في كربلاء

استفاض سماحته في استحضار العلاقة القرآنية المقدسة بين الآباء والأبناء، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . وأشار إلى أن كربلاء قدمت نماذج حية لهذه العلاقة، حيث ضحى الآباء بأبنائهم، وقدم الأبناء أرواحهم بين يدي آبائهم، في مشهد نادر من التماهي في الولاء، والسمو في الفداء، يرسم أروع صور التضحية والبر.

@’المرأة: شريكة الرسالة وصانعة القرار

تجاوز دور المرأة في كربلاء مجرد الحضور العاطفي أو الهامشي، فقد أكد الشيخ آل سيف على دورها المحوري كصانعة قرار، ومحركة للرجال، ورافعة للمعنويات. استشهد بزوجة حبيب بن مظاهر التي حفزته للالتحاق بالحسين قائلة: ”قاتِل دون الحسين“. كما أشار إلى نساء كنّ أعمدة للصبر والوعي، لم يتراجعن حين انسحب الرجال، ولم يضعفن أمام هول الفاجعة، بل كنّ رموزًا للثبات والإيمان.

السيدة زينب: بطلة من رماد الخيام

بلغ الحديث ذروته عند تناول شخصية السيدة زينب في تلك الليلة الفاجعة، ليلة الحادي عشر من المحرم. حين خمدت أصوات الرجال، واحترقت الخيام، وتفرق الأطفال، برزت زينب كالسفينة التي بقيت بعد الطوفان، تحمل من بقي من آل الحسين، تحميهم وتوجههم، وتربط الأرض بالسماء بكلماتها، وصبرها، وصلابتها. لم تكن زينب مجرد شاهدة على كربلاء، بل هي التي روت الواقعة للعالم، وأبقت صوت الحسين حيًا، وحملت الرسالة من السيوف إلى الكلمات، فكانت ناطقة الثورة بعد صمت السيوف. إنها القائدة التي صمدت في وجه المحن، والمربّية التي غرسَت بذور الصبر والعزيمة في نفوس من بقوا.

دروس وعبر من كربلاء: نداء خالد لكل زمان

لم تكن محاضرة سماحة الشيخ فوزي آل سيف مجرد قصة تروى، بل تجربة روحية تستنهض النفوس. ومن أبرز ما نستفيده من هذه الرؤية العميقة:

- كربلاء دعوة دائمة للمشاركة في مشروع الحق، أيا كانت طبقتك، عمرك، أو حالك. إنها دعوة للجميع للانضمام إلى ركب العدل والحقيقة.

- المرأة في مشروع الحسين شريكة لا تابعة، وهذا يؤكد على أهمية دورها في بناء المجتمعات والدفاع عن القيم.

- التضحية بالولد، أو تقديم النفس بين يدي الأب، ليست مأساة فقط، بل هي قمة في وعي الإيمان، وتجلٍ لأسمى درجات الولاء.

- صوت زينب يجب أن يبقى دليلًا للأمة، كلما احترقت خيام المبادئ، أو تاهت العقول في ظلام الطغيان. إنها الرمز الذي يلهم الصمود والثبات.

في الليلة الحادية عشرة، تخرج زينب من بين الرماد، لتُعلّمنا أن الحسين لم يُقتل ليُبكى فقط، بل ليُستنهض به الضمير، ولتبقى كربلاء حية ما بقي في الناس حر ينشد كرامته، وأم تربي على الولاء، وامرأة تصنع من الألم بطولة. فهل نعي هذه الدروس ونستلهم منها طريقنا نحو الحق؟

عضو مجلس المنطقة الشرقية ورجل أعمال