بين زخرفة الطرح وطوق النجاة: ماذا نحتاج أن نعلم
النقد ضرورة لكل تطوّر؛ لأنه يُسلّط الضوء على مكامن الضعف، ويوقظ الوعي بما يحتاج إلى تقويم وإصلاح. وإذا صُوّب الحديث نحو المنبر الحسيني، وجدنا أن بعض الناس يركّزون على المهارات الخطابية كحُسن الربط، والتبسيط، وجمالية الطرح، فيما يرى آخرون أن العبرة بما يُقدَّم من محتوى يرتقي بالناس علميًا وروحيًا. حديثي هنا لا يتناول أساليب الإلقاء أو أدوات الإقناع، بل يركّز على جوهر الخطاب: المحتوى العلمي الرصين، الذي أراه حاجة ملحّة للمتلقّي في هذا العصر.
لكل علمٍ قواعد ومبادئ، والتمسكُ الصارم بها، وتطبيقها بوعي، هو مفتاح بلوغ الكمال وتحقيق المراتب السامية. والدين، شأنه شأن العلوم العظيمة، له أصولٌ ثابتة تمثل العمود الفقري الذي ترتكز عليه الفروع، كما يحمل جذع الشجرة أغصانها، وتحمل الأغصان أوراقها المتفتحة. أصول الدين الخمسة وفروعه العشرة في نظري ليست مجرد مبادئ جامدة، بل هي الدعائم الصلبة التي تبنى عليها كل معرفة دينية. ولعل أعظم دليل على هذا هو ما يواجهه الإنسان في أول اختبار بعد الموت؛ فلا يُسأل عن كم الكتب التي قرأها، ولا عن كثرة العلوم التي تعلمها، بل يُسأل بعد المعرفة عن الصلاة، عمود الدين وأساس الخشوع. من هنا يتبين أن قيمة العلم لا تُقاس بكثرته، بل بوزنه في ميزان المصير والخلود. ولو وُضعت مسائل الصلاة في كفة، ووضعت آلاف الدواوين الشعرية والكتب غير المرتبطة بجوهر الدين في الكفة الأخرى، لرجحت الأولى دون أدنى شك. فالعلم بها، والفهم الدقيق لأصول الدين وفروعه، هو الكنز الحقيقي الذي يضيء دروب الآخرة. وكما أن من يجد نفسه مخيرا بين برميل ماء ضخم بلا نفع، ودانة صغيرة ثمينة، لا محالة سيختار الدانة، كذلك الناجي في حسابه هو من تمسّك بجوهر الدين، لا من أثقل رأسه بكمٍّ هائل من المعارف السطحية بلا أساس. فكم من عارفٍ بأبجديات دينه، مستقيمٍ في سلوكه، يكون أسعد الناس يوم لا ينفع مال ولا بنون، لأنه امتلك الدرّة التي تنجيه.
إن ناقد الطرح الديني، إن لم يكن واعيًا بأسئلة الآخرة وموازين النجاة، فإنه يُضلّ من ينتقده ويُضعف رسالة المنبر بدل أن يُسهم في تطويرها. فالمنبر الحسيني، في جوهر رسالته، ليس مجرد وسيلة للتثقيف، بل هو طوق نجاةٍ في الآخرة، ومحراب هدايةٍ في الدنيا، يُخرج الإنسان من الظلمات إلى النور. وما عدا ذلك من معارف لا تقوم على أصول الدين وفروعه، فهي كحشائش الصحراء: كثيرة المنظر، قليلة الأثر. الفضل كل الفضل في أن يعرف الإنسان دينه: من عرف أصوله وفروعه وطبقها، عرف سبيله، وضمن سراطه، وسَلِمَ في آخرته. وأما من حاز علوم الدنيا كلها، وجهل ما ينجيه في الآخرة، فإنه — ولا شك — يلقى الله تعالى يوم القيامة وهو يقول:
﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزمر: آية 56].