ليلة عاشوراء.. الدمعة والذكرى والخلود
في عالمٍ تتسارع فيه إيقاع الأحداث وتتلاشى فيه الذكريات تحت وطأة صخب الحاضر، تبرز ليلة عاشوراء كمعلمٍ ثابتٍ. ليست مجرد ذكرى تاريخية، بل ظاهرة ثقافية وروحية عميقة تستلهم منها الأجيال معاني الصمود والعدالة. إنها ليلةٌ لا تكتفي باستحضار المشهد التراجيدي في كربلاء، بل تعيد إنتاج ذاكرةٍ جماعيةٍ تتجدد في كلّ عام، لتؤكد أن الحسين لم يكن ضحيةً لحادثةٍ عابرة، بل رمزًا لرسالةٍ خالدةٍ تتجاوز كل محاولات الطمس والتشويه.
الدمعة والوعي: كيف يعمق المشهد الوجدان؟
ارتبطت عاشوراء بالدمعة والانكسار، وهذا قد يُفهم ظاهريًا كفعلٍ عاطفيٍّ بحت. لكنّ التعمق في قراءة هذا المشهد يكشف عن بعدٍ تحليليٍّ مهمٍّ. فمشهد استحضار وقائع الطفّ، كما يتجلّى في خطب سماحة الشيخ فوزي آل سيف، لا يهدف إلى إثارة الحزن لذاته، بل إلى خلق وعيٍّ جمعيٍّ متجددٍ بالمبادئ التي قامت عليها ثورة الحسين. حين يرتفع صوت النداء ”يا حسين“، وحين يتجسد الألم في استحضار مناجاة الإمام لجدّه: ”ضمني عندك يا جداه في هذا الضريح“، فإننا لا نشهد مجرد سردٍ، بل تفعيلًا لذاكرةٍ حيةٍ تحفز على التفكير في أبعاد التضحية والعدل.
لحظة ذروة المأتم، عند استعراض مشهد صعود الشمر على صدر الحسين، ليست مجرد لحظة وصفٍ عابر. إنها نقطة تحولٍ نفسيةٍ وروحيةٍ تحول المستمع من متلقٍّ إلى مشاركٍ وجدانيٍّ. هنا، يتوقف الزمان في وعي المتلقي الذي ينغمس في أبعاد الفاجعة. الصياح والبكاء الذي يعمّ المجلس ليس تعبيرًا عن ضعف، بل هو آليةٌ جماعيةٌ لتحرير الانفعالات وتجديد العهد، وإعادة ترسيخ القناعة بأن هذا الدم المراق لم يذهب هدرًا، بل بات وقودًا لرسالةٍ أعمق. هذا التفاعل العاطفي ليس غايةً، بل وسيلةٌ لترسيخ المبادئ الأخلاقية التي سعى الحسين لإقامتها: العدل، مقاومة الظلم، والتضحية من أجل الحق.
سر البقاء: لماذا استعصت الذكرى على النسيان؟
إنّ النظرة التحليلية لأحداث عاشوراء لا تتوقف عند المأساة، بل تتجاوزها إلى فهم عميقٍ لظاهرة ”الخلود“ التي ميّزت هذه الذكرى. فالتاريخ يخبرنا بمحاولاتٍ ممنهجةٍ لطمس معالم هذه الثورة وشطبها من الذاكرة الجمعية. محاولاتٌ تنوعت بين إخفاء القبر الشريف وحرثه وسقي الماء عليه، وبين التضييق على الزائرين وقتلهم، وصولًا إلى المحاولة الأكثر دهاءً: تشويه المناسبة نفسها. لقد سعى البعض إلى تحويل عاشوراء من يومٍ للأسى إلى يومٍ للفرح، وربطها بأحداثٍ تاريخيةٍ أخرى لا تمت لجوهرها بصلة، في محاولةٍ لتغيير هويتها الجوهرية.
لكنّ المفارقة التحليلية هنا تكمن في فشل هذه المحاولات. فكلما اشتدت قبضة القمع، وكلما تعاظمت محاولات التشويه، كلما ازداد وهج عاشوراء، واتسع نطاق تأثيرها. يعود هذا الفشل إلى أسبابٍ عدة:
مركزية الرسالة: لم يكن الحسين مجرد زعيمٍ سياسيٍّ يُقتَل ويُمحى أثره. لقد كان ابن رسالةٍ إلهيةٍ، ورمزًا لمبادئ العدل والحق التي تتجاوز حدود الزمان والمكان. هذه المبادئ هي التي أمدت الذكرى بالحياة، وجعلتها عصيةً على النسيان.
الوعي الجمعي العميق: إنّ البنية الاجتماعية والثقافية التي احتضنت ذكرى عاشوراء كانت متجذرةً بعمقٍ في وعي الشعوب، لدرجة أن محاولات القمع لم تفلح إلا في تعزيز تماسكها وتعميق ولائها.
قوة السردية: السردية الحسينية ليست مجرد أحداثٍ؛ إنها حكايةٌ إنسانيةٌ كونيةٌ عن مواجهة الظلم، والانتصار الروحي على الهزيمة المادية. هذه السردية تستمد قوتها من قدرتها على مخاطبة الفطرة الإنسانية في كلّ زمانٍ ومكان.
ختامًا، ليلة عاشوراء تتجاوز كونها مجرد سرد لأحداثٍ مضت. إنها تجربة تحليلية متجددة تُبرز قوة الرسالة، وثبات المبادئ، ومحدودية محاولات الإخفاء. هي برهانٌ حيٌّ على أن الفكرة الصادقة لا تندثر، وأن الخلود يتجسد في الأثر العميق للرسالة، لا في الوجود المادي فحسب. وهكذا، يبقى الحسين حاضرًا، ليس فقط بذكراه، بل لأنه أيقظ ضميرًا مستمرًا.