جوهر الإنسان «4»
بحث في الشتات
هدوء النفس وسط ضجيج العالم من حولها بالمشاكل والمتاعب وتشابك العلاقات المعقّدة والصعوبات والضغوط الحياتية، مطلب مهم لاستعادة التوازن الفكري والانفعالي وتركيز الجهود في ميدان العمل وتحقيق الأهداف المرجوة، فالعقل في خضم الأزمات يصاب بالتشتت وعدم القدرة على التفكير المنطقي والتأملي فضلا عن اتخاذ القرارات والخيارات المناسبة، وأما الإرادة فتضعف عن القيام بالمهام الموكلة أو المتوجب عملها بعد أن تنهش تلك الهموم والآلام بقدراته وإمكانياته، فحالة الحيرة والسقوط في أتون اليأس شيئا فشيئا تبدأ بمهاجمته وهو يعيش حالة التشتت النفسي، وأولى الخطوات للتخلص من هذا الضجيج العالي هو اللوذان بالصمت وطلب الاستراحة النفسية لتجميع قواه واستعادة توازنه وسيطرته على مقدراته وإمكانية تفعيلها مجددا بشكل صحيح، ولن يكون هدوؤه النفسي انفصالا حقيقيا عن واقعه وحاضره والإصابة بحالة الانفصام، بل هي خطوة استراحة محارب - كما يقال - ليعود مجددا إلى ميدان العمل والحقل المعرفي، إذ نفاذ الذخيرة وعدم القدرة على مواصلة العمل بنفس الحرفية والمهارة والإنجاز حقيقة ينعكس وقوعها على مختلف نواحي حياتنا وعلاقاتنا، فإن الفرد قد يصل إلى مرحلة لا يستطيع فيها أن يقدّم شيئا مثمرا على مستوى التخاطب وتبادل الأحاديث والنقاش مع الآخرين، وبدلا من تقديم صورة لا تعكس حقيقته بل وتعود عليه بالخسارة وفقدان المكانة المتميزة، يلوذ بالصمت الاختياري لا للتهرب والانسحاب بل هو تجديد القوى والمخزون المعرفي والثقافي ليعاود ممارسة علاقات فاعلة، فواحة الهدوء والصمت لا تعني البُعد عن الكلام والتخاطب بقدر ما هو حضور حالة الوعي والإدراك والتفاعل الإيجابي والإنتاجية مجددا.
هذا الهدوء الواعي مطلب مهم في سبيل استعادة التوازن وفهم ما حولنا من علاقات وأحداث وأهداف نسعى إليها، فشتان ما بين العبثية والتحرك في منطقة فارغة دون الوصول إلى نتائج ذات جدوى، وبين الاستعداد بشتى سبله قبل أن يقدم على أي خطوة مع دراسة الاحتمالات المتوقعة.
مواجهة الذات في لحظات مفصلية دون تهرب يؤدي إلى فهم وإدراك لنقاط القوة أو الضعف، فالإنسان في مشاعره وتفكيره وإرادته بناء متكامل لا بد من الحفاظ على ترتيبه وقوته من الفوضى والخواء الفكري أو الفراغ السلوكي، ففي صفو الصمت نستعيد مشاعرنا المستفَزّة أو الأفكار المشتتة، في محاولة لاتخاذ بعض الخطوات المدروسة أو التراجع عما لا فائدة ترجى منه، وهكذا نعيد ترتيب أوراقنا وبناءنا الروحي والفكري والسلوكي عن وعي وإدراك بعيدا عن صخب العلاقات وتشابكها وتعقيداتها.
الحديث الصامت مع النفس فرصة لالتقاط الأنفاس واستعادة الألق وترميم الخطوات الممزقة، نسمع فيها لغة الروح التأملية بكل دقة بعيدا عن تحريف الواقع وبهرجة وتصفيق أصحاب الأقنعة الزائفة، فمن المهم الإصغاء لصوت ضميرنا الناقد حيث يضعنا نصب عينينا ما وقعنا فيه من أخطاء أو تقصير.