الاقتصاد الصحي وتحليل حسابات التكاليف: ركيزة تطوير القطاع الصحي العام والخاص في المملكة العربية السعودية
بعد دراسةٍ معمقة وبحثٍ مستفيض في الأدبيات والمصادر المتخصصة، توصلت إلى هذه السردية انطلاقًا من قراءتي التحليلية المتأنية في هذا المجال الحيوي والمهم في صحة الإنسان، وذلك بهدف تعميم الفائدة وإثراء وعي المجتمع والممارسين على حد سواء.
يشهد القطاع الصحي في المملكة العربية السعودية تحولاً شاملاً يتسق مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، التي وضعت كفاءة الإنفاق وجودة الخدمة في قلب أولوياتها. وفي هذا السياق، تتعاظم أهمية تحليل حسابات التكاليف في المنشآت الصحية كأداة استراتيجية لدعم الاقتصاد الصحي وتحقيق استدامة الموارد، سواء في القطاع العام أو الخاص. لا يمكن الحديث عن تحسين جودة الخدمات الصحية أو تقليل الهدر المالي دون وجود تحليل دقيق وشامل للتكاليف؛ إذ يعد هذا التحليل ضرورة لا غنى عنها لفهم الواقع المالي الحقيقي للمؤسسات الصحية وتوجيه القرارات الإدارية والاستثمارية بشكل مدروس.
يلعب تحليل التكاليف دورًا جوهريًا في الاقتصاد الصحي، حيث يمكّن صناع القرار من قياس التكلفة الحقيقية لكل خدمة طبية، ما ينعكس على تسعير أكثر عدالة وشفافية، وتوزيع أكثر كفاءة للموارد، وتحديد الأولويات الاستثمارية وفقًا للعائد الصحي الفعلي. وتكمن أهمية هذا التحليل في قدرته على المساهمة في توجيه السياسات الصحية نحو الأنشطة والخدمات ذات القيمة الأعلى مقابل التكلفة، وذلك من خلال أدوات تحليلية دقيقة مثل تحليل التكلفة والعائد، وتحليل فعالية التكلفة. وفي المملكة، يندرج هذا التوجه ضمن مساعي التحول المؤسسي التي تقودها وزارة الصحة عبر مبادرات مثل التجمعات الصحية، والتي تهدف إلى تعزيز الاستقلال المالي، وتحقيق أعلى كفاءة تشغيلية وجودة سريرية ممكنة.
ولا يخفى أن القطاع الصحي السعودي، في كلا شقيه العام والخاص، يواجه تحديات متزايدة تتعلق بارتفاع التكاليف التشغيلية وتوسع نطاق الخدمة. وتشير تقديرات محلية إلى تزايد متوسط الإنفاق السنوي على المرافق الصحية، مما يجعل من الضروري اعتماد أدوات دقيقة ومرنة لقياس وتحليل هذه التكاليف. فالقطاع العام يحتاج إلى ضمان كفاءة الصرف ضمن حدود الميزانيات الحكومية، بينما يسعى القطاع الخاص إلى رفع الربحية دون المساس بجودة الرعاية. وفي كلا الحالتين، يمثل تحليل التكاليف أداة للتقييم والمساءلة والتطوير.
وتجدر الإشارة إلى أن التجارب الدولية توفر نماذج مرجعية قيّمة في هذا الإطار، حيث تعتمد أنظمة صحية متقدمة مثل هيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة «NHS» على تحليل فعالية التكلفة لتحديد الأدوية والإجراءات التي تستحق التغطية. أما في دول مثل ألمانيا وكندا، فإن محاسبة التكاليف على أساس النشاط «ABC» تُستخدم لتوزيع التكاليف بدقة بين الخدمات الطبية المختلفة، ما يعزز الشفافية ويزيد من كفاءة الإنفاق. ومن الملفت أن المملكة بدأت بالفعل في اعتماد بعض هذه النماذج، لاسيما في بعض التجمعات الصحية، وهو ما يُعد خطوة في الاتجاه الصحيح.
إن نجاح تطبيق تحليل حسابات التكاليف في المملكة يتطلب بيئة تنظيمية وتقنية متكاملة، تشمل بناء أنظمة معلومات صحية ومالية متقدمة، وتدريب الكوادر الطبية والإدارية على استخدام أدوات التحليل والتقييم المالي، وتطوير مؤشرات أداء واضحة لقياس الكفاءة والتكلفة والعائد الصحي. كما أن ربط التمويل بالأداء الحقيقي للمؤسسات الصحية سيشكل نقلة نوعية في كيفية إدارة الموارد وتوزيعها على مستوى الوطن.
ومما لا شك فيه أن الغاية من تحليل التكاليف لا تقتصر على خفض المصروفات أو ضبط الموازنات، بل تتجاوز ذلك إلى تحقيق ما يُعرف بـ ”القيمة الصحية“، أي تقديم خدمات صحية تحقق أفضل النتائج الصحية الممكنة بأقل تكلفة ممكنة. وهذا ما تسعى إليه أنظمة الرعاية الصحية الحديثة من خلال نموذج الرعاية القائمة على القيمة «Value-Based Healthcare»، والذي بدأت المملكة في تبنيه عبر عدد من البرامج مثل ”الدفع مقابل النتائج“، وهو ما يفتح آفاقًا واسعة لتحسين جودة الرعاية وتحقيق رضا المرضى وتعزيز كفاءة النظام الصحي ككل.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن تحليل حسابات التكاليف في المنشآت الصحية السعودية يشكل أحد الأعمدة الأساسية لتعزيز الاقتصاد الصحي الوطني، وتحقيق الاستخدام الأمثل للموارد، ورفع كفاءة وجودة الخدمات المقدمة للمواطن والمقيم على حد سواء. إن التوسع في هذا المجال وتبنيه كأداة يومية في الإدارة الصحية لا يمثل رفاهية، بل ضرورة حتمية لتحقيق الاستدامة والعدالة والكفاءة في تقديم الرعاية الصحية، بما يواكب تطلعات المملكة نحو مستقبل صحي واعد ومزدهر. وفي ظل التحول الصحي الذي تقوده المملكة من خلال إنشاء تجمعات صحية متقدمة في مختلف المناطق، فإن تحليل حسابات التكاليف سيكون هو الشريان النابض لهذا التقدم المستقبلي في الرعاية الصحية، بما ينعكس إيجاباً على صحة الفرد وجودة حياة المجتمع. إن الاستثمار في التحليل المالي الدقيق هو استثمار في صحة الإنسان، وفي بناء نظام صحي مرن، شفاف، وقادر على مواجهة التحديات الحالية والمستقبلية بثقة واقتدار.