مراتب الملذات
قد يبلغك أن أحدهم بلغ حد الملل وفقدان الاستذواق لكل ما لذ وطاب من الطعام والشراب والملابس والسيارات مبلغ انعدام الإحساس بها أو فقدان بريق جاذبيتها في حياته؛ فبعد أن قصد سفرا كل المحطات السياحية المشهورة، حتى بلغ حد السفر بشكل عشوائي، والأكل بالتناوب في كل أفخر مطاعم المنطقة والأكثر شهرة والأغلى سعرا، وارتداء أفضل الملابس واقتناء أفضل السيارات وأرقى الأجهزة الإلكترونية الميسرة للحياة و.. و.. إلخ، إلا أنه مع شديد الألم ولج في نفسه طغيان شعور التعاسة مع أنه إنسان مُنعم. إذا الغوص أكثر في عالم اللذات الحسية لم يقشع منه شعور التعاسة. فحتما هناك ملذات أخرى لم يطرق ذاك الشخص أبوابها ولم يكتشفها.
الملذات لدى بعض أهل العلم والفلسفة والعُرفاء يُقسمونها لثلاث مستويات:
1 - المُتع الحسية «المادية» وتشمل الأكل والشراب والسفر واللعب والترفيه والرقص والجنس وهي ملذات أغلبها أمور مشتركة مع عالم الحيوان.
2 - المُتع الروحية وتشمل الدعاء والمناجاة والصلاة والصوم والتسبيح والاستغفار ومشاعر إحراز النجاح في التحصيل العلمي والعطاء والتشجيع والتحفيز وتبني المبادرات ونجاح المشاريع. وهي بالجملة مرتبطة بمشاعر روحية غير ملموسة ماديا، ولكن تغمر الإنسان بالسعادة عند تحققها على يديه.
3 - المُتع العقلية وتشمل التفكير والتدبر والوعي الرصين والتخطيط واستنطاق مبان روح القوانين والحوارات الفكرية الناهضة والحكمة والرشد واستقراء السلوكيات وتحليل البيانات العلمية للأنماط البشرية. وتُصنف بأنها الأفضل في مراتب الملذات والمُتع الإنسانية.
لعل البعض من الناس سهل الله له إحراز مباهج الحياة المادية، ومتعه الله بالكثير من النِعم، ولكنه بسبب نفسه الأمارة بالسوء حُرم من استشعار اللذة، واستوطنه الملل والتعاسة بسبب إهماله لروحه وعقله.
ونحن في بداية عام هجري جديد نتطلع أن يتمعن كل منا بزيادة مستوى منسوب اللذة الفكرية عبر القراءة والاستماع والحوار والاستفسار لأنها سر من أسرار الوعي والنجاح والاستقامة والانعتاق من التعاسة. وفقت بعض الحواضر والمدن في مناطق حول العالم بوجود مفكرين وخطباء وكُتاب يثرون الوجبات الفكرية موسميا للعروج بقيم إنسانية أعلى وأقرب إلى الله. وابتليت بعض الحواضر بوجود محرضين يشعلون جذوات الكره والتباغض والقتل والاعتداء على الآخرين.
مع مطلع كل عام، أدعو الباحث والقارئ الصادق والمثقف المعرفي الاهتمام بالغذاء الفكري عبر قراء الكتب المعتبرة والإعراض عن تراشقات التغريدات المقيتة أو تفاهات تغطيات الإعلام الرخيص.
اقترح على الطلاب البعيدين عن منابع الفكر الرصين، لا سيما المغتربين بقراءة والاستماع لمجموعة كتب منتخبة تغذي الفكر الرصين.
بحكم التقدم فيدالعمر وتراكم الأمراض لدى البعض، يُحرمون تلقائيا بموجب توصيات صحية من عدة أطعمة وعدة أنشطة وعليه تنكمش تلقائيا الملذات الحسية. ومن لم يوطد نفسه على تذوق الملذات «المُتع» الفكرية في شبابه سيتألم بالوحشة والوحدة والانعزال في كبره. وعليه أنصح نفسي ومن تهمه نفسه أن يوطد نفسه على التلذذ بالملذات الفكرية والروحية في شبابه كما يتلذذ في أكله وشربه. فذاك أنفع له في مشيبه.