عاشوراء: موسم النور ومسؤولية الكلمة
حين يحلّ شهر محرم، وتُطوى أولى صفحاته، تستيقظ ذاكرة الإنسان بأكملها على قصة عظيمة من الإيثار والكرامة. إنها عاشوراء الحسين، الحدث الذي لم يبهت وهجه رغم مرور أكثر من أربعة عشر قرنًا، لأنه لم يكن مجرّد واقعة تاريخية، بل صرخة حقّ في وجه الظلم، وصوت ضمير إنساني خالد يتردّد في قلوب الأحرار على مرّ العصور.
الإمام الحسين لم يكن رمزًا لطائفة، بل كان رمزًا للإنسانية كلها؛ ثورته لم تنطلق من مصالح آنية، بل من مبدأ الدفاع عن الكرامة والعدل والحق. ولهذا فإن استحضار هذه الذكرى ليس محصورًا في الإطار المذهبي، بل هو واجب إنساني وأخلاقي في زمنٍ تاهت فيه القيم.
في هذا السياق، يبرز دور المنبر الحسيني، الذي لم يكن يومًا مجرّد منبر للعاطفة، بل منبرًا للوعي والبصيرة. إن الجهد الذي يبذله الخطباء في إعداد المواضيع، وتقديم خطب تستلهم من كربلاء دروسًا واقعية لمعالجة قضايا المجتمع، هو جهد مقدَّر ومبارك. فكل شخصية من شخصيات كربلاء تحمل في طياتها رسالة قابلة للترجمة في واقعنا المعاصر؛ من الحسين الذي يمثّل المبدأ، إلى زينب التي تمثّل الصبر والكلمة الشجاعة، إلى علي الأكبر الذي يجسّد روح الشباب المؤمن.
وفي ظل ما نملكه اليوم من وسائل إعلام وتواصل اجتماعي، باتت مسؤوليتنا في نشر فضائل أهل البيت أعظم، وأكثر تأثيرًا. لقد أصبح بإمكان كل فرد أن يكون منبرًا متحركًا، ينقل رسالة الحسين إلى من حوله، وينثر من نور كربلاء في بيئته ومجتمعه وعالمه الرقمي، بالكلمة، بالصورة، بالتصرف، والموقف.
ولن نغفل في هذا المقام عن شكر حكومتنا الرشيدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين - حفظهما الله - على ما يُقدم من خدمات تنظيمية وأمنية في مختلف المناطق، والتي تُسهّل على الناس إحياء هذه الشعائر بكل أمان وطمأنينة وحرية، وتُظهر وجه المملكة في تسامحها الديني ووعيها الحضاري في احتضان مختلف المناسبات.
نعم، نحن نعيش في نعمة عظيمة من الأمن والاستقرار، وهذه النعمة تستوجب شكرًا عمليًا يتمثل في تعظيم شعائر الله، واستثمار المناسبات الدينية في ترسيخ القيم، وتعزيز الوحدة، وبناء الوعي.
عاشوراء ليست مناسبة للبكاء فقط، بل مناسبة للانطلاق، ولإعادة التذكير بقيمة المبدأ، وجمال التضحية، وأهمية الكلمة، في زمنٍ يكثر فيه الكلام ويقل فيه الصدق.
فلنكن أمناء على هذا الموسم، وحَمَلةً لرسالته، وناطقين بقيمه في كل ميدان، في البيوت، في المدارس، في أماكن العمل، وفي العالم الرقمي.
رحم الله من أحيا أمر الحسين، وجعلنا الله جميعًا من الناشرين لنوره، العاملين بقوله، السائرين على خُطاه.