استخدام الشات جي بي تي قد يُفسد العقل، لكن الحقيقة قد تكون أعقد من ذلك بكثير
بقلم فيتومير كوفانوفيتش وريبيكا مارون، أستاذان مشاركان ومديران مشاركان لمركز التغيير والتعقيد في التعلم «C3L»، التابع لمؤسسة مستقبل التعليم، جامعة جنوب أستراليا
MIT researchers say using ChatGPT can rot your brain. The truth is a little more complicated
كتب المقدمة د. علي عبدالله الحاجي، أستاذ مساعد سابق في كلية التربية، جامعة الملك سعود
June 23,2025
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
وبعد: فهذه تأملات تربوية وتعليمية أثارتها هذه المقالة المتعلقة بقضية الذكاء الاصطناعي، وتطبيقه المثير تعليميًا وتعلميًا، وهو المعروف بالتشات جي بي تي ChatGPT، ويمكن من خلال التطرق إلى المبنى المفهومي لما تضمنته هذه المقالة المثيرة، عرض بعض الأمور التربوية والتعليمية التي يمكن أن تتأثر بهذا النوع من التطبيق.
فالعملية التربوية والتعليمية هي عملية معقدة ومتغايرة بين المتعلمين، ومن الصعب تحديدها أو تنميطها. وهي في نفس الوقت عملية جماعية تحتضنها مؤسسات يوافق عليها النظام الاجتماعي بتحديد خطوطها العريضة وأهدافها العامة. وهي كذلك عملية تطبيقية، وعقلية، ونفسية، وجسدية. وهي أيضًا عملية متحركة وليست جامدة، لأنها مرتبطة بالإنسان، الذي هو بطبيعته متحرك ومتغير.
والمؤسسات التربوية القائمة تتعامل مع المتعلم من خلال احتواء تلك الأمور، ووضع المسارات التعليمية العامة والمتناسبة مع طبيعة هذا المتعلم المتحرك والمتغير.
غير أن هذه العملية متدرجة وبطيئة تتناسب مع السن الزمني والعقلي للمتعلم، مع الأخذ بعين الاعتبار وضعه النفسي والاجتماعي ونموه الجسدي، فهو في بداية انخراطه في السلك التربوي المعد له مسبقًا بتعلم المهارات الأساسية اللازمة له كإنسان، سيصبح عضوًا اجتماعيًّا مؤثرًا ومتأثرًا.
ومن أهم هذه المهارات الأساسية ما يمكن أن نطلق عليها مهارات التفكير العقلي والنقدي. إذ صمم النظام التربوي القائم مسارات تعلمية لتتعامل مع مثل هذه المهارات، كعلوم الرياضيات بمختلف فروعها ومستوياتها، وعلوم الفلسفة والمنطق، وعلوم اللغة بمختلف مكوناتها، إلى غير ذلك من العلوم ذات العلاقة.
ولكن يبدو أن الانطلاقات العلمية المعاصرة والمتسارعة ابتدأت بالتدخل في كل شأن من شؤون حياة الإنسان، بما فيها نشأته التعليمية والعقلية. وهذا الأمر ألقى أعباءً ثقيلة على المؤسسات التربوية، وعلى السياسات التعليمية التي أقرها النظام السياسي والاجتماعي لتحديد خصائص وسمات هويته الثقافية واتجاهاته الفكرية والعلمية.
والمتعلم في هذا الموقف واقع في ثناياه أمور متعددة وضغوط متزايدة، فهو مرتبط بطبيعة النظام التعليمي الجماعي وسياساته الثقافية وأهدافه العامة، ومنفتح على ما يستجد من تطورات تكنولوجية وثقافية وعلمية متسارعة تتزاحم مع طبيعة النظام التعليمي القائم.
فمن جهة يدفعه النظام التعليمي القائم إلى التعامل الجماعي في أدائه التعلمي، ومن جهة أخرى تدفعه التطورات التكنولوجية والثقافية والعلمية أن يكون منفردًا في أدائه التعلمي، وهو ما يمكن أن يسمى «بالتعلُّم المشخّصن».
فمن خلال التشات جي بي تي يعزل المتعلم نفسه، وإن كان وجوده الذاتي من ضمن مؤسسة تربوية جماعية.
فهو يشعر بأنه ليس بحاجة لأيٍّ كان على إعانته في استمرارية تعلمه، لأن الذكاء الاصطناعي قد احتواه، ويسَّر أمره في التفكير العقلي والتأمل الفكري نيابةً عنه.
وهنا تكمن الخطورة في تعطيل التفكير النقدي، وظهور ما يمكن تسميته بالترهل العقلي، أو تجاوزًا نسميه الدَّيْن الذهني «Cognitive Debt».
ولكن الذكاء الاصطناعي، وبالذات تطبيق التشات جي بي تي، قد يساعد على إنجاز مهام تعليمية كانت عصية على الإنجاز سابقًا، ولا تزال تتطلب جهودًا ذهنية كبيرة.
وأخيرًا، لا أجد داعيًا إلى القلق بشأن سير العملية التربوية والتعليمية، بالرغم من ظهور مثل هذه التطورات العلمية والتكنولوجية المذهلة.
وذلك لأن من أنتجها هو التأمل والتفكير العقلي البشري. ولن يعجز هذا التفكير العقلي عن توجيه النظام التعليمي لابتكار الآليات المناسبة للحد من سيطرة وغلواء وقوة الذكاء الاصطناعي.
القدرة العقلية التي أودعها الله سبحانه لدى الإنسان لا حدود لها، وذات قوة لديها الإمكانات المقتدرة في تجاوز ما يعترضها من عقبات، مهما كانت صرامتها.
العقل البشري مصمم بقدرة الله تعالى ليتمكن من احتواء هذا الكون، بما فيه من إمكانات، سواء أكانت ظاهرة أم مستترة.
فلا خوف مقلق على تعطيل قدرة التفكير العقلي الإنساني، فهذه القدرة هي من أنتجت هذه التطورات المعقدة، ولها القدرة على التحكم فيها وتوجيهها بما يتوافق مع مصالحه ورغباته الذاتية والاجتماعية والثقافية.
والله ولي التوفيق.
الاثنين 4 محرم 1447 هـ الموافق 30 يونيو 2025، الأحساء المباركة.
منذ أن ظهر وانتشر استخدام الشات جي بي تي ChatGPT قبل نحو ثلاث سنوات، دار جدل واسع حول تأثير تقنيات الذكاء الاصطناعي في عملية التعلم. فهل يُعد الشات جي بي تي أداة من الأدوات الفعّالة للتعليم المشخصن [المصمم لتلبية الحاجة التعليمية لشخص بعينه [1] ]، أم أنها تُشكّل بوابة للغش «الخيانة أو الاحتيال» الأكاديمي [2] ؟
ما هو أكثر أهمية، هو أن هناك قلقًا [3] من أن استخدام الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى ”تبسيط“ واسع النطاق، أو تراجع في القدرة على التفكير النقدي [4] . يُقال إنه إذا استخدم الطلاب أدوات الذكاء الاصطناعي في وقت أبكر في حياتهم الأكاديمية، فقد لا يستطيعون تنمية مهارات التفكير النقدي والقدرة على حل المسائل أو المشكلات.
هل هذا هو الحال واقعًا؟ وفقًا لدراسة حديثة أجراها باحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا [5] ، يبدو أنه كذلك بالفعل. يقول الباحثون إن استخدام الشات جي بي تي للمساعدة في كتابة المقالات يمكن أن يؤدي إلى ”دَيّنٍ ذهني cognitive debt [وهو ما يحدث حين يتكئ شخص على الذكاء الاصطناعي ويجعله يفكر عنه، وهذا من شأنه أن يسبب تدهورًا في قدراته الذهنية، وذلك بسبب عدم استخدامها، كما يحدث للعضلات في حال عدم ممارسة التمارين الرياضية]“ و”تراجع ممكن في مهارات التعلم“.
ماذا وجدت الدراسة؟
طوال فترة استمرت أربعة أشهر، طلب فريق معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا من 54 مشاركًا كتابة سلسلة من ثلاث مقالات باستخدام إما الذكاء الاصطناعي «الشات جي بي تي»، أو محرك بحث «مثل قوقل»، أو استخدام عقولهم «الاعتماد على تفكيرهم الذهني الطبيعي». قاس الفريق الانخراط الذهني «مقدار التفكير الذهني المبذول أثناء الكتابة» وذلك بقياس النشاط الكهربائي في الدماغ وتحليل المقالات من الناحية اللسانية «اللغوية».
كان مستوى الانخراط الذهني لدى المجموعة التي استخدمت الذكاء الاصطناعي «مجموعة الشات جي بي تي» أقل بكثير من المجموعتين الآخرتين «المجموعة التي استخدمت محرك البحث وتلك التي اعتمدت على عقولها». كما وجدت مجموعة الشات جي بي تي صعوبة في تذكر الاقتباسات من المقالات التي كتبتها، وكان إحساس هذه المجموعة بالارتباط النفسي «الإحساس بالملكية» بما كتبوه منخفضًا.
من المثير للاهتمام أن المشاركين تبادلوا الأدوار في كتابة المقالة الرابعة والأخيرة «المجموعة التي استخدمت عقولها في السابق فقط استخدمت في كتابة هذه المقالة الأخيرة الذكاء الاصطناعي، والعكس صحيح في المجموعة التي استخدمت الذكاء الاصطناعي في السابق». أداء مجموعة الذكاء الاصطناعي السابقة التي تحول دورها إلى استخدام العقل في هذه المرحلة كان أسوأ، وكان انخراطها الذهني في المهمة أفضل بقليل من المجموعة الأخرى في التجربة الأولى، وهي أقل بكثير من الانخراط الذهني للمجموعة التي اعتمدت على عقولها فقط في التجربة الأولى.
يزعم المؤلفون أن هذا يوضح كيف أدى الاستخدام المطول للذكاء الاصطناعي إلى تراكم ”الدين الذهني“ لدى المشاركين. عندما أتيحت لهم أخيرًا الفرصة لاستخدام عقولهم، لم يتمكنوا من استعادة مستوى جودة أداء المجموعتين الأخريتين.
لا تعني هذه النتائج بالضرورة أن الطلاب الذين استخدموا الذكاء الاصطناعي راكموا ”دينًا ذهنيًا“ أكثر. من وجهة نظرنا، ترجع هذه النتائج إلى التصميم الخاص بالدراسة.
يُرجّح أن يكون التغيير في الروابط العصبية الدماغية للمجموعة التي استخدمت عقولها فقط خلال كتابة المقالات في التجربة الأولى نتيجةً لارتفاع مستوى إلمامها بالمهمة «مدى تعودها على المهمة التي كلفها بها الباحثون أو بعد أن أصبحت المهمة مألوفةً لديها»، وهي ظاهرة تُعرف بـ ”تأثير التعود [6] “. فمع تكرار المشاركين في الدراسة للمهمة، يصبحون أكثر إلمامًا بها «تعودًا عليها» وكفاءة في عملها والحصول على نفس النتيجة «جودة النتائج» في كل مرة، وتتكيف معها استراتيجيتهم الإدراكية [من التفكير والتخطيط [7] ] وفقًا لذلك.
عندما تمكنت المجموعة التي استخدمت الذكاء الاصطناعي أخيرًا من ”الاعتماد على عقولها في كتابة المقال،“ قامت بهذه المهمة لمرة واحدة فقط «أي لم تألف أو تتعود على هذه الطريقة بعد». ونتيجةً لذلك، لم تتمكن من مماثلة تجربة المجموعة الأخرى. ولم تحقق سوى مستوى انخراط ذهني أفضل بقليل من المجموعة التي استخدمت عقولها فقط خلال كتابة المقالات الأولى «التجربة الأولى».
لتفسير ما ادعاه الباحثون بشكل تام، سيحتاج المشاركون الذين استخدموا عقولهم في التجربة الثانية بعد أن كانوا قد استخدموا ”الذكاء الاصطناعي في التجربة الأولى“ إلى إكمال ثلاث محاولات كتابة بدون استخدام الذكاء الاصطناعي [أي باستخدام عقولهم فقط، وذلك حتى يكون لديهم ما يعرف بتأثير التعود، انظر أعلاه].
وبالمثل، يُرجَّح أن تكون المجموعة التي استخدمت عقولها في التجربة الثانية بعد أن استخدمت "الذكاء الاصطناعي في التجربة الأولى أكثر إنتاجيةً واستراتيجيةً نظرًا لطبيعة مهمة الكتابة في التجربة الثانية، والتي تطلبت كتابة مقال حول أحد المواضيع الثلاثة السابقة [مما يعني أنهم تعودوا عليها وأن ذلك أصبح مألوفًا لديها].
ونظرًا لأن الكتابة بدون الذكاء الاصطناعي تتطلب انخراطًا ذهنيا أكثر، فقد كانت ذاكرتهم لما كتبوه في التجربة الأولى أفضل بكثير. ولذلك، استخدموا الذكاء الاصطناعي في التجربة الثانية للبحث عن معلومات جديدة لتحسين جودة ما كتبوه في التجربة الأولى.
لفهم الوضع الراهن للذكاء الاصطناعي، يمكننا العودة إلى ما حدث عندما ظهرت الآلات الحاسبة أول مرة.
في سبعينيات القرن الماضي، ضُبط «سُيطر على» تأثير الآلات الحاسبة في العملية التعليمية وذلك بجعل الامتحانات أكثر صعوبة. فبدلاً من حل المسائل الرياضية وعمل الحسابات يدويًا، سُمح للطلاب باستخدام الآلات الحاسبة وذلك لصرف جهودهم الذهنية على حل مسائل أكثر صعوبة وتعقيدًا [بدل من صرفها على حسابات يمكن إجراؤها باستخدام الآلات الحاسبة].
في الواقع، رُفع مستوى صعوبة الإجابة على أسئلة الامتحانات بشكل ملحوظ، مما تطلب من الطلاب بذل نفس المجهود الذهني «إن لم يكن أعلى» مما كان مطلوبًا منهم قبل ظهور الآلات الحاسبة.
تكمن الصعوبة التي يواجهها المعلمون في استخدام الطلاب الذكاء الاصطناعي في أنهم «أي المعلمون»، في معظم الأحيان، لم يرفعوا مستوى صعوبة الإجابة على أسئلة الامتحانات بحيث يمكن أن يكون استخدام الذكاء الاصطناعي جزءاً أساسيًا من العملية التعليمية. لا يزال المعلمون يطلبون من الطلاب الإجابة على نفس الأسئلة من حيث مستوى صعوبة الإجابة ويتوقعون منهم بذل نفس مستوى الجهد الذهني كما كانوا يتوقعون منهم ذلك قبل خمس سنوات، أي قبل ظهور الذكاء الاصطناعي.
في مثل هذه الحالات، قد يكون الذكاء الاصطناعي ضارًا بالفعل. غالبًا ما يُوكل الطلاب مسؤولية حل المسائل إلى الذكاء الاصطناعي، وبذلك يوفرون بذل أي مجهود ذهني منهم، مما يُؤدي إلى ”التواكل والاتكاء على الذكاء الاصطناعي لإنجاز مهامهم التعليمية المطلوبة «8.9».“
ومع ذلك، وكما هو الحال مع الآلات الحاسبة، يُمكن للذكاء الاصطناعي، بل وينبغي، أن يُساعدنا في إنجاز مهام تعليمية كانت عصية على الإنجاز سابقًا، ولا تزال تتطلب جهودا ذهنية كبيرة. على سبيل المثال، قد يطلب المعلمون في تعليمهم الطلاب استخدام الذكاء الاصطناعي لإعداد خطة دروس مُفصَّلة، والتي يمكن أن تُقيَّم بعد ذلك من حيث جودة التدريس والتعلم الفعال والمناسب للطلاب والمتوافقة مع المبادئ التعليمية المعتمدة من نتائج الامتحانات الشفوية.
في الدراسة التي أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، المشاركون الذين استخدموا الذكاء الاصطناعي كتبوا مقالاتٍ بنفس ”جودة المقالات القديمة التي كانت تُنتج قبل الذكاء الاصطناعي.“ الفرق هنا يكمن في أنهم لم يبذلوا جهودّا ذهنية في عمل المتوقع منهم. نفس الشيء سيحدث لو طُلب من الطلاب حل مسائل حسابية معقدة باستخدام آلة حاسبة أو بدون استخدامها. سيبذل الطلاب جهودا ذهنية لو قاموا بحل المسائل الحسابية يدويًا، بينما بالكاد ترمش عيون من يستخدمون الآلة الحاسبة.
تحتاج الأجيال الحالية والمستقبلية إلى القدرة على التفكير النقدي والإبداعي وحل المسائل، بيد أن الذكاء الاصطناعي بدأ في تغيير معنى هذه الأمور.
لم تعد كتابة المقالات بالقلم والورقة دليلاً على القدرة على التفكير النقدي، كما لم يعد حل مسائل القسمة اليدوية المطولة [10] دليلاً على القدرة على الحساب.
معرفة متى وأين وكيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي تعتبر مفتاح النجاح وتنمية المهارات في الأمد الطويل. تحديد أولويات المهام التي يمكن إسنادها إلى الذكاء الاصطناعي للحد من الدين الذهني لا يقل أهمية عن فهم المهام التي تتطلب إبداعًا وتفكيرًا نقديًا حقيقيين.