آخر تحديث: 1 / 8 / 2025م - 11:14 م

الاصطفاء في زمن المتغيرات «4»

ياسين آل خليل

الناس يرون النجاح، يحتفون بالنتائج، ويصفّقون لمن بلغ القمة. لكن هناك اصطفاء لا يُرى، ولا يُحتفل به، لأنه لا يحدث على المسرح، بل في عمق النفس. إنه ذلك الاصطفاء الخفي، حين يراك الله في لحظة صدق لا يعلمها سواك، في موقف داخلي اخترت فيه الخير دون شهود، في نية صافية وسط ضجيج النوايا المتداخلة. الاصطفاء الأعظم ليس أن يراك الناس متفوقًا، بل أن يراك الله مستقيمًا.

ليس كل عملٍ عظيمٍ يبدأ بالفعل أو يُقاس بنتيجته الظاهرة، فكثير من الأعمال العظيمة تبدأ من النية وحدها. وما أكثر القلوب التي لم تُنجز شيئًا يُذكر في أعين الناس، لكنها عند الله قد بلغت الغاية، وأتمّت الرسالة، بصدق التوجّه وإخلاص النية. فالله لا يصطفي العاملين بكمال العمل فقط، بل يصطفي الصادقين في النية، وإن تعثّرت خُطاهم، أو حالت الظروف دون تمام سعيهم.

كثيرة هي الأشياء التي يمكن أن تُنتزع أو تُمنح بيد البشر، المكانة، المال، الشهرة.. إلا الاصطفاء، فإنه لا يُنال بجاه، ولا يُنتزع بحيلة. هو منحة من الله، يهبها لمن علِم من قلبه صدقًا، ومن سريرته نقاءً، ومن رحلته إخلاصًا خالصًا لا تشوبه المصالح. هو كرامة لا تُعلن، وتكريم لا يُشهر، بل يُلمَس في السكينة، في التوفيق، في الطمأنينة التي تسكن قلبًا مشغولًا بالله، لا بالناس.

في لحظات العزلة، حين تغيب عنك الأعين وتبهت الأصوات، تظن أنك وحيدًا. لكن هناك من الناس من يكون في الخفاء أقرب إلى الله منه في الضوء. وهناك من يبلغ رتبة لا بعمل كبير، بل بدعاء في الليل، أو موقف عظيم في صمت لا يعلمه إلا رب العالمين. الاصطفاء هنا أن تكون مع الله، حين لا يكون معك أحد.

لم يكن الاصطفاء يومًا حكرًا على من عرف أو أنجز، بل كان دومًا نصيبًا لمن صفا قلبه، وخلُصت سريرته. فالله لا يختار الناس بأجسادهم، ولا بألسنتهم، بل بقلوبهم. فالقلب الذي لا يحمل حقدًا، ولا يطلب علوًا، ولا يُنازع الناس في صغائر الأمور، هو قلب مرشحٌ للكرامة الإلهية، ولو لم يعرفه أو يزكيه أحد من الناس.

في الختام، ليس الاصطفاء أن تُخلَّد في كتب البشر، بل أن يُكتَب اسمك في سجلّ الصادقين، عند من لا يغفل ولا ينسى. الاصطفاء الحقيقي ليس ما نراه الآن، بل ما يُكشف حين تنقشع الحُجب وتُوزن القلوب لا الأفعال. أن يراك الله حين يجهلك الناس، أن يرضى عنك حين تُظلِمك المقاييس، تلك هي أعظم مراتب الاصطفاء.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
علي السالم
[ القطيف ]: 25 / 6 / 2025م - 6:26 م
سلمت استاذ ياسين.. أعتقد أن الكثير منا ينسى أن القيم الحقيقية لا تقاس بالنجاح الظاهر بل بما في القلوب.
2
سارة العلي
[ سنابس ]: 25 / 6 / 2025م - 8:07 م
اجدت وابدعت في تصوير مفهوم الاصطفاء
3
محمد
[ القديح ]: 25 / 6 / 2025م - 11:02 م
أحيانا نحتاج إلى أن نتذكر بأن الله يرانا في خلواتنا وهذا ما يجعلنا نعمل بصدق