بين البساتين المهملة والمقهى القديم
بين البساتين: طريق هادئ يقطع بساتين نخيل مهملة كانت ذات يوم بساتين خضراء تسرُ الناظرين، رجل في الأربعين من عمره يسير بينها نحو مكان ما متعقباً ضلال نخيلها هرباً من أشعة شمس حارقة، باله مشغول بما له وما عليه ونظرات من عينيه ترتمي هنا وهناك علها تحتضن لحظة ملفتة توقظ فيه سبات عقله.
فكرة تلوح في رأسه أثناء مسيره، وخياله يتسع في وجدان قلبه، وصورة بقسمات غريبة وباهرة تتكون ملامحها في عمق عقله مثل تكون نطفة علقت في رحم أنثى.
يسير وتسير معه كلماته وخلجات نفسه، يردد أفكاره كأنشودة ملحنة بنثريات شعرية كتبها أديب.
وهكذا بقي حاله حتى وصل مكانه المقصود.
المقهى القديم: أصوات تضج الأسماع وهرولة كلامية بين القيل والقال ونقاش عقيم وقيام وجلوس وأنفاس تشهق وقلوب تخفق وحروف تقرأ من أوراق الكتب مع رشفات شاي على طاولة مقهى قديم.
يصل الرجل إلى وجهته بعد أن طوى طريقه بين البساتين وقد خالطت أفكاره نقائضه وحلق بأحلامه بين السواد والبياض وعاش لحظاته ماشياً وفي عينيه تتقلب الصور كتقلب الجنين في بطن أمه.
نحو كرسي مركون أمام طاولة في إحدى زوايا المقهى أتجه بكل هدوء، جلس وجلست معاه مشاعره وآهاته الدفينة ووجدانياته المتسعة بخيالات لا منتهى لها والتي حرص دائماً أن لا يظهرها إلا عن طريق فكرة أو فلسفة حرفية تصاغ كما يصاغ الذهب بأيدي صناعه.
جلس وحيداً بعيداً عن صخب رواد المقهى، لكن دواخله كانت صاخبة، تضج وتصرخ بما يحمله في نفسه من حنين ومن اشتياق ومن دفائن دفنت فيها ذكرياته وأطلال زمنه الجميل الذي كان مرآته التي عكست حاضره.
تأمل حوله باحثاً عن الشيء وعن اللاشيء لعله يجد ما يشعل به إلهامه أو ما يستحضر به غريب الأفكار وعجيب المعاني، لمح لمحة في وجوه الذين حوله ولمحة أخرى في المكان، ثم تعاقبت لمحاته بين السطح والعمق، كرر نظرته التأملية نحو محيطه الزماني والمكاني ثم غاب عن عالم الناس وأنشغل بعالمه وعزلته.
حاور نفسه ودخل في نقاش محتد بين صوت باطنه وبين الزمان والمكان، سؤال هنا وإشكال هناك، من أنا ومن هؤلاء، أين الماضي وأين الحاضر والمستقبل، متى وكيف ومن أين وإلى متى.!
خاض بوجدانه أبجديات الحياة وسرح بخياله إلى البعيد والعتيق، أنغمس بحنينه إلى حيث كان أباه وجده، سمع حكايات جدته وأمه تتلوها الذكريات، شم عبق أماكنهم وأستشعر عبور زمانهم فما كان منه إلا أن خط شجونه برأس قلم.
أمسك قلمه، كتب حنينه ورسم ذكرياته ونقش على صفحات الدهور الأثر، أستحضر ما قرأ وما كتب وما سمع، سار بحماس نحو التاريخ والسير ونحو جغرافيا المكان، قارن بين ما كان بما هو الآن، تحسر وتألم، تبسم وضحك، اختلطت مشاعره وأحاسيسه حتى شكلت لوحة عجيبة، وضع الحطب على النار ثم صب الماء على النار، وبقي يصول بين كر وفر حتى أحسّ بغصة تأملية في عجائب ”الإنسان“.
حياة الإنسان سر غامض، وتكوينه النفسي عالم كبير، يحمل في دواخله الكون وسعته ومع ذلك يجزع وينهار في لحظة عابرة أو حدث رآه.
بهذا بدأ ينفض غصته ويكتب عن الإنسان على ورقه المجعد في دفتره القديم، ثم واصل سرد كلماته قائلاً:
الإنسان كائن غريب الأطوار والأفعال، فعلى الرغم من صفاء فطرته وحنكة عقله إلا إنه بسبب ضيق بصيرته يتوه في دهاليز الأفكار، طريقه واضح ومع ذلك لا يسلكه خوفاً من وحدته، يعلم أن لكل أمر خاتمة حتمية ومفصلة لكنه لا يأخذ الدرس ولا يتعلم من ماضي من سبقوه ولا من مصير الأمم، يتألم ويؤلم وكأن مشاعره وأحاسيسه مصابة بالفصام، يطلب الصعاب والبسيط حوله أجمل وأطيب، يدور حول عيوب غيره وعيبه منه أقرب.
الجهل آفته التي تنخر وجوده كما تنخر الدودة جذع النخلة، فتجعله أجوف وضعيف، لا يملك قدرة على فهم ذاته ولا على فهم ما حوله، يعيش دون كيان ويموت فرداً لا أثر له.
يظلم نفسه حين يصنع لنفسه مثالية موهومة، يغره الحسب والنسب وما هو في حقيقته إلا جرماً صغير زائل كزوال الغبار حين يتطاير مع هبوب الريح.
الإنسان وما أدراك ما الإنسان، أعجوبة الخلق في كينونته وسيد الوجود في الحياة، يعيش على الأرض ويطير في السماء دون جناحين، يصارع أمواج البحار ويصعد أعالي الجبال ولكنه يسقط بكلمة ويغرق في موقف.
الإنسان حين يتبنى أو يعتقد أمر ما لا يرى في اعتقاد غيره صلاح، يعيش مخدوع أعمى دون محاولة منه لإيجاد الحقيقة أو مشاهدة الواقع، يقدم أخاه وصديقه قرباناً لما تبنى وأعتقد، ويفر من دينه لدنياه ومن نفسه لنفس غيره، يرعى مع القطيع ويضيع حين تزاحمه قوة المواجهة.
هكذا هو الإنسان وصفاً وسلوكاً وهكذا هو الإنسان شكلاً وقالباً، باطنه يتجلى في ظاهره، ملامحه تعبير وسكونه حكايات مختبئة وحديثه تعريف عن نفسه، يحب ويكره ويحزن ويفرح ويدور بأخطائه مبتهجاً دون مبالاة كما تدور النواعير في مجاري الأنهار.
بقي يحدث نفسه عن الإنسان وعن ملامح الإنسان الواضحة والخفية وعن حيرته وعدم بصيرته في آفاق نفسه حتى نال منه الوقت ونادى النادل في المقهى القديم حان وقت الإغلاق.
طوى أوراقه وأغلق دفتره وسار نحو باب المقهى، خرج وعاد أدراجه من حيث جاء عبر الطريق بين البساتين المهملة قاصداً منزله، مشى متثاقل الخطوات وهو يهمس قائلاً: أنا الإنسان الجاهل العجول الذي لا يستطيع وصف نفسه ولا يستطيع معرفة ذاته.
”أنا الإنسان الذي لم يكن في يوماً ما شيئاً مذكوراً“.