الاصطفاء في زمن المتغيرات «2»
قد يغيب عن الأعين أن من أعظم أشكال الاصطفاء، أن يُرزق الإنسان بصيرة تفرّق بين ما يلمع وما يضيء، بين ما يُثير الإعجاب وبين ما يستحق الاحترام. والمعرفة، حين تكون حقيقة، ليست تكديسًا للمعلومات، بل وعيًا يقود صاحبه نحو الحكمة، وميزانًا يُهذّب به نفسه، ويختار به طريقه.
فليس كل من تعلّم أصبح راشدًا، ولا كل من حاز علماً بات حكيمًا. بل إن الابتلاء الأكبر في هذا العصر، أن تنمو المعرفة في الرأس دون أن تتغلغل في القلب، فتصير أداة تفوق لا وسيلة ارتقاء، وتتحول من نعمة إلى عبء يُثقِل الكاهل إن لم يصحبها خلقٌ يهذب، وضميرٌ يرشد.
الإنسان «المصطفى» في هذا الزمن ليس الأكثر دراية، بل من جمع إلى درايته ورعًا، وإلى فطنته نقاءً. ذاك الذي لا يغترّ بما يعرف، بل يسعى لأن يكون ما يعرفه سببًا في أن يسمو، لا أن يتعالى.
فالفضيلة ليست حالة طارئة، بل أثر تراكم معرفة نقيّة صادقة، تُنبت في النفس تواضعًا، وفي القلب رحمة، وفي السلوك اتزانًا. وكلما ازدادت المعرفة صفاءً، ازداد صاحبها قربًا من جوهر الإنسانية، وارتقى في درجات الاصطفاء دون أن يشعر.
وفي هذا العالم الذي يعجّ بالمعلومة، ويزدحم بالشهادات، ويُصفق فيه للأذكى لا للأتقى، يصبح التماسك الأخلاقي نوعًا من الاصطفاء الخفي. ذلك الذي لا يُرى في العناوين، بل في التفاصيل الصغيرة، في ردّة الفعل، وفي صدق النية، وفي كظم الغيظ حين تشتعل الأعصاب.
إن المعرفة وحدها لا تصنع الإنسان «المصطفى»، لكنها تُهيئ له الأرض، وتمنحه الضوء، وتدعوه أن يختار. فإن استجاب لنداء الفضيلة، ارتقى. وإن اكتفى بالعلم دون تهذيب، ضل الطريق، وإن بدا في الظاهر ناجحًا.
وما أرقى أن يتكامل في الإنسان نور العقل وصفاء الخُلق، فتلتقي في داخله المعرفة الصادقة والفضيلة الأصيلة. عندها لا يكون مجرد متعلم، بل شاهدٌ على المعنى الحقيقي للاصطفاء. ذلك الاصطفاء الذي لا تمنحه الشهادات، ولا تمنّ به المناصب، بل يهبُه الله لمن زكّى نفسه، وثبّت قدمه في زمن الاضطراب، وتمسّك بمبادئه حين تهاوت كثير من القيم.