المقارنة الصامتة... حين تسرق منا سعادة اللحظة
في زمن طغى فيه مظهر الأشياء على جوهرها، ودون أن نشعر نجد أنفسنا عالقين في مقارنات لم نقصدها، أحياناً نفتح هواتفنا ونتصفح ما ينشره الآخرون من صور وإنجازات ولحظات تبدو مثالية، وفجأة يتسلل إلى داخلنا شعور خفي بالنقص، لا لأننا نفتقر لما نراه بل لأننا ننظر إلى حياتنا من خلال عدسة الآخرين، لم نعد نقارن أنفسنا بما كنا عليه بالأمس بل بمن يبدو أنهم يعيشون أفضل منا اليوم، في المظهر، في النجاح، في العلاقات، أو حتى في عدد المتابعين، ومع كل مقارنة نخسر جزءًا من السلام الذي نستحقه، ونمنح الآخرين دون قصد سلطة تحديد قيمتنا.
لقد أصبحت المقارنات عادة يومية تغذيها الطفرة الرقمية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تُعرض حياة الناس عبر لقطات منتقاة بعناية فائقة، كالرحلات والاحتفالات والإنجازات، علاوة على ابتسامات مُتقنة، فنظن أن الجميع يعيشون حياة خالية من الهموم، وننسى أن ما نراه ليس إلا مشهداً مُمنتجاً بعناية لا يعكس بالضرورة الواقع، وهكذا تصير المقارنة فخاً صامتاً لا نسمع صوته، لكنه يُنهك القلب، ويشوش الرؤية، ويضعف تقديرنا لذواتنا حتى دون أن نعي ذلك.
ومع مرور الوقت يصبح الفخ أكثر إحكاماً، فكلما تعمقنا في المقارنة زادت قسوتنا على أنفسنا، وصارت أعيننا لا ترى سوى ما ينقص لا ما نملك، ننسى أننا نسير في طريق مختلف، بزمن مختلف، وبظروف لا تشبه ظروف أحد، ومع ذلك نُحمل أنفسنا أعباء لا تخصنا، ونتطلع إلى نتائج لم تُكتب لنا بعد، وكأننا في سباق لا نعرف ملامحه، ولا حتى وجهته، فالمقارنة ليست مجرد نظرة عابرة، بل قد تتحول إلى شعور دائم بالعجز، يقضم الطمأنينة من القلب، ويترك في النفس حالة من التوتر المستمر، فما أن ننجز شيئاً حتى نقلل من قيمته لأنه لا يشبه إنجاز الآخرين، وما أن نفرح بلحظة حتى نخجل منها لأنها لا تبدو مثيرة كما لحظاتهم، والمؤلم أن هذا الشعور قد يتسلل حتى في أكثر لحظاتنا صدقاً، نفرح ثم نعود لنقارن، ننجح ثم ننظر لمن تفوق أكثر، نُحب ذواتنا ثم نجلدها حين لا تشبه المثالية الرقمية التي نشاهدها صباح مساء، وهكذا يتآكل الرضا من داخلنا ببطء دون ضجيج.
علينا أن نقف هنا لحظة ونتساءل: ما الذي يجعلنا نقيس حياتنا بمعايير لا نعرف ظروفها؟ لماذا نسمح لواجهة مصقولة أن تسرق منا قيمة ما نعيشه فعلياً؟ أليس من العدل أن ننظر إلى أنفسنا بعين الرحمة ونحتفل بتقدمنا مهما كان بسيطاً؟
الحياة الحقيقية لا تُقاس بعدد الصور التي نشاركها، ولا بعدد الإنجازات التي نصفها لنيل الإعجاب ”اللايكات“، الحياة الحقيقية تُقاس بصدق اللحظات، بعمق الشعور بالرضا الذي يملأ القلب حين نكون على طبيعتنا دون تزييف أو تصنّع، ولأن هذا الشعور بالنقص المتكرر يمكن أن يزرع بذور الحسد والضيق والتذمر، فقد جاءت التوجيهات الإلهية والنبوية لتحذرنا من هذا المسار، وتدلنا على طريق السلام النفسي والرضا الداخلي في قوله جل وعلا: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ [طه: 131]، هذه الآية الكريمة تُطمئن قلب كل من أنهك بالتطلع لما في يد غيره، وتدعوه أن يُعيد بصره إلى ما في يده هو، لا إلى ما هو في أيدي الناس.
ففي الحديث الشريف عن النبي محمد ﷺ: ”انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم“ «صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، 4/2275، برقم 2963». هي تربية نبوية عظيمة تعيد توجيه البوصلة نحو الامتنان، وتذكرنا بأن النظر إلى الأعلى باستمرار قد يصيبنا بالعمى عن النعم التي بين أيدينا، فالمقارنة الصاعدة لا تؤدي بالإنسان غالباً إلا إلى مزيد من الحسرات، بينما المقارنة الهادفة التي تُبنى على التأمل قد تكون دافعاً نحو النمو دون جلدٍ أو احتقار للذات.
ومن زاوية علمية، تشير دراسة نُشرت في مجلة ”الشخصية والفروق الفردية“، وهي مجلة علمية مُحكّمة تعنى بدراسة علم النفس والسمات الشخصية وتأثيرها على السلوك والعلاقات الاجتماعية، تصدر بهولندا، إلى أن ”الاستخدام المتكرر لوسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً بغرض مقارنة الذات بالآخرين، يرتبط بزيادة مشاعر الحسد وتدني احترام الذات“. كما بيّنت الدراسة أن الأفراد الذين يقضون وقتاً أطول في تصفح إنجازات وحياة الآخرين على المنصات، يعانون من معدلات أعلى من القلق والاكتئاب، ونتيجة تكرار المقارنة وشعورهم بأن حياتهم أقل قيمة أو إنجازاً. وهذا ما يجعل من المقارنات المزمنة خطراً صامتاً، فهي لا تُحدث ضجة، لكنها تُنهك الداخل، وتسرق من المرء متعة التقدم الفردي، وبينما يركض الناس في سباقات ظاهرها النجاح، يغفل الكثيرون عن أعمق نجاح: أن تعيش في سلام مع نفسك، وترضى بقدرك، وتسعى لتطوير ذاتك لا لتقليد غيرك.
لقد تغيرت طريقة رؤيتنا لأنفسنا حين بدأنا نُمعن النظر في حياة الآخرين أكثر مما نُمعن النظر في داخلنا، فأصبحنا نلاحق صورة مثالية لا نعرف أصلها، ونحاسب أنفسنا على قصورٍ لم نرتكبه، بل فرضته مقارنة غير عادلة. كم مرة تساءلنا فيها: لماذا لا نملك ما يملكون؟ دون أن نتساءل في المقابل: وماذا نملك نحن ولا يشعرون هم به؟ إن هذا السؤال وحده كفيل بأن يُغيّر نظرتنا للعالم ويعيد ترتيب أولوياتنا من جديد.
ليست المشكلة في أن نُعجب بإنجازات الآخرين أو نستلهم من قصصهم، بل في أن نذيب هويتنا في قالب لا يشبهنا، إن الرضا لا يأتي من الخارج، بل من الداخل، من التقدير العميق للنفس، ومن القناعة بأن لكل شخص طريقته الخاصة في الازدهار، فكم منا يحمل بذوراً فريدة من نوعها، تحتاج وقتاً وظروفاً لتزهر وتكبر، ولن تُزهر وتكبر إن انشغلنا بمراقبة حدائق الآخرين. وإن أردنا أن نعيش بسكينة، فعلينا أن نتعلم كيف ننظر لحياتنا كما هي، لا كما نُريدها أن تبدو أمام الناس، أن نخفف من ضجيج المقارنة، ونصغي لصوت العقل، ذاك الصوت الذي يقول: لقد قطعت شوطاً طويلاً وما زلت قادراً على أن تتقدم، لكن بخطوات تُشبهك، فالطمأنينة لا تسكن في القمم، إنما تسكن في القناعة، والسعادة لا تُقاس بعدد الإعجابات، بل بالرضا الصامت الذي ينبع من الداخل، فإذا شعرت يوماً أنك متأخر عن غيرك، فتذكر أنك في طريق مختلف، وأن المقارنة لا تنصفك بل تُبخسك حقك، وأن تكون كما أنت. فهل نملك الشجاعة أن نغلق أعيننا عن حياة الآخرين لبعض الوقت؟ ونفتحها على النعم التي بين أيدينا، وأن نحبها دون أن نقارنها بأحد؟