آخر تحديث: 24 / 5 / 2025م - 1:54 م

قراءة لقصيدة ”أَنَّةُ الْوَلْهَانِ“ للشاعر ناجي وهب الفرج

عماد آل عبيدان

في قلب القصيدة ”أنّة الولهان“، ينفتحُ النص على نداءٍ شفيفٍ مضمّخٍ بعطرِ العاطفة وحرقةِ التوجع، معلنًا منذ مستهلهِ انتماءه إلى طقوسِ العاشقين الذين عجنوا الحرفَ بالحنين، وجعلوا من البيانِ مرآةً لفيوضِ الشعور. هي قصيدةٌ تنوسُ بين الشجنِ والسكينة، بين الانخطافِ الوجدانيّ والانكسارِ الوجوديّ، متكئةٌ على نسقٍ شعريّ ناعمٍ، يعانقُ الإيقاع دون أن يثقله، ويعبرُ الصور دون أن يستعرضها.

أولًا: في المعمار الموسيقي والإيقاعي

يختار الشاعرُ إيقاعًا سلسًا ينتمي إلى بنية القصيدة العمودية، بوزنٍ هادئ ينسجمُ مع الحالة الوجدانية للنص، فيبدو البحر وكأنه يسري بانسيابٍ شبيه بانسياب أنفاس المتلهف، دون أن يشي بأيّ تكلّف. القافية المتنقلة برشاقةٍ تفتح مجالًا للصور والدلالات أن تتناثر دون عناء، مما يدل على وعيٍ بنغمة النص لا كنظامٍ شكليّ، بل كامتدادٍ لنبرته الشعورية.

ثانيًا: البنية الصورية واللغة الشعرية

في المستوى التصويري، يرسمُ الشاعر صورًا مجازيةً شديدة الحسّية، لا تكتفي بالمحسوسات بل تنسج من عناصر الطبيعة جسدًا للمعشوقة ومعراجًا للعاطفة:

"شَمَمْتُ بِهَا مِنْ رَحِيْقِ الزُّهُوْرِ

فَأَلْقَتْ بِمِسْكٍ تَعَدَّىْ مَدَاهَا"

هنا، يتحول الشمّ إلى طقسٍ عرفانيّ، والعبير إلى فضاءٍ يفيضُ من الذات المعشوقة حتى يتجاوز إدراك الحواس. لا يتوقف ناجي الفرج عند استدعاء الطبيعة كزينة بل يوظّفها ككنايةٍ وجدانية ترمز إلى حالة نفسية؛ فرحيق الزهور ليس مجرد عطرٍ، بل دلالة على صفاء اللقاء، بينما المسك الذي ”تعدّى مداها“ يُلمّح إلى أثرٍ يتجاوز اللحظة.

ثالثًا: الفضاء الزمنيّ والمكانيّ

القصيدة تقوم على حركة تذكّرية بين لحظتين: لحظة الحضور التي كانت «رياضًا حوتنا»، ولحظة الفقد المتوشحة بظلام ”غيابٍ بليلٍ طواها“. هذا التوتر الزمني هو الذي يمنح القصيدة نبضها المأساويّ، حيث يتحوّل الماضي إلى نهرٍ من الصور التي تفيض في قلب الحاضر، وتشكّل وجعًا يمتدّ في كل بيت.

"فَأَيْنَ الْمَلَاذُ لِحُصْرٍ تَلَاشَتْ

خَفَاهَا الْغِيَابُ بِلَيْلٍ طَوَاهَا"

هذا البيت تحديدًا يمثّل ذروة الانكسار، إذ ينكشف عن سؤالٍ وجوديّ؛ الحصر «الحصون/الأمان» تلاشت، والغياب التهم الظلال، وهو استعارةٌ للخذلان العاطفيّ أو لرحيلٍ ما، ربما كان فجيعة فُقدان أو خيانة وجدان.

رابعًا: ثنائية المعشوقة/الوطن

لا تلبث صورة المعشوقة أن تذوب في صورة الوطن أو الأرض، لا بوصفها امرأة فحسب بل ككيانٍ مأهولٍ بالرموز والانتماء:

"هِيَ الْأَرْضُ قَدْ زَادَ فِيْهَا جِذَابٌ

وَعَمَّتْ صِرَامًا لِحَسْرٍ شَجَاهَا"

هنا يتحوّل النص إلى تمثيلٍ مزدوج: أنين العاشق يضيق ليشمل أنين الأرض، فالحب ليس حالة شخصية، بل تجربة تمثل ضيق الإنسان أمام مفارقة الجمال والزوال، الاتصال والانقطاع.

خامسًا: تداخل الأنا والآخر

"فَعُدْتُ عَلَىْ مَا نَبَانِيْ بِخُبْرٍ

فَحَنَّ الْفُؤَادُ وَطَالَ جَفَاهَا"

هذا البيت يلخّص تحول ”الأنا“ من فاعلٍ إلى مفعول به للغياب. لم يعد هو العاشق المتحكم في عاطفته، بل بات أسيرًا لخبرٍ عن الحبيبة، يدفعه الفؤاد إلى الحنين رغم الجفاء. هذه المعادلة المعكوسة تعبّر عن التحول من الهيام إلى الانكسار، من التمنّي إلى التلاشي.

سادسًا: المراوحة بين الصفاء والتشظّي

القصيدة تتلوّن باستمرار بين بؤرتين: بؤرة النقاء التي يشعّ فيها الحياءُ والضياء، وبؤرة التشظّي التي تعصف بها الذاكرة والفقد، كما في:

"تَشُعُّ بَيَاضًا زَهَاهُ الْحَيَاءُ

تَزِيْنُ بِسِحْرٍ هَوَاهُ زَكَاهَا"

ثم في المقابل:

"أَيَا مَنْ تُنَاغِيْ الْهَوَىْ مِنْ قَرَاحٍ

فَقَدْ زِدْتَ فِيْهَا بِنَغْصٍ قَذَاهَا"

هذا التناقض ليس ضعفًا بل ميزة بنيوية في النص، تمنحه نبضًا متأرجحًا هو ذاته نبض الإنسان العاشق بين مدّ الرغبة وجزر الفقد.

نبض أخير:

قصيدة ”أنّة الولهان“ هي مرآة مفرطة في صدقها، لا تعتمد على زينة اللغة بقدر ما تتكئ على صميم التجربة الوجدانية. ناجي وهب الفرج لا يكتب للمتلقي بقدر ما يكتب من عمق اشتعاله، وهذا ما يجعل النص حيًّا، نابضًا، صادقًا، ومتجاوزًا لأيّ استعراض بيانيّ.

هي قصيدة عشقٍ متلبّسة بالحكمة، ومطرٌ داخليّ لا يبلّ الأرض، بل ينمو في وجدان القارئ، ويورقُ في قلب الناقد حين يكون النقد قراءةً عاشقة لا قاضية.