آخر تحديث: 25 / 5 / 2025م - 11:50 م

من جيل إلى جيل: حين ينكسر الجسر بين الطموح والتجربة

سامي آل مرزوق *

حين يتطلع مجتمع إلى النهوض الحقيقي، لا يكون التقدم رهين الإمكانات الحديثة أو الطاقات المتجددة فحسب، إنما يرتكز في جوهره على رصيد ثمين من الخبرات المتوارثة بين الأجيال، فالحكمة لا تُولد في لحظة، والتجربة لا تُختصر في بضع سنوات، بل تنضج عبر تفاعل طويل بين الإنسان وظروفه، بين طموحه وإخفاقه، بين الفكر والواقع. ومن هذا المنطلق، فإن نقل التجارب، لا سيما في ميادين العمل الاجتماعي والتطوعي، ليس مجرد فكرة نظرية، ولا تفضّلًا من السابقين، بل هو ضرورة تفرضها دورة البناء واستمرارية العطاء.

غير أن الواقع الاجتماعي يُظهر مشهدًا متكررًا: شباب يندفعون بحماسة نحو مشاريع تطوعية واعدة، ثم لا تلبث شعلة هذا الحماس أن تخفت وتذبل، لا لقلة العزم، وإنما قد يكون بسبب غياب التوجيه، أو لنقص في التخطيط، أو لعدم إدراك للتحديات الواقعية. وعلى الضفة الأخرى، يقف أصحاب الخبرات، وقد آثر بعضهم الصمت، إما بدافع تواضع في غير موضعه، أو لشعورٍ زائف بأن زمن العطاء قد ولى. وهكذا، لا تغيب الأفكار ولا تنعدم الرغبات، بل ينكسر الجسر المفترض أن يربط بين التجربة والطموح، وبين الذاكرة والتجديد.

وقد جسّد القرآن الكريم هذا المفهوم العظيم في أبلغ صورة، حين أوصى نبي الله يعقوب أبناءه في لحظات الفراق، قائلًا: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: آية 132]. إنها وصية لا تُختصر في كلمات، بل تحمل إرثًا من الوعي والالتزام، وتؤكد أن نقل القيم والإيمان ليس عملية عابرة، بل عهد يتوارثه الأبناء عن الآباء، ليظل النور ممتدًا على طريق الحياة.

وفي ذات السياق، نجد التوجيه النبوي الشريف يمنح مرحلة الشباب اهتمامًا بالغًا، باعتبارها المرحلة الأخصب في تشكيل الهوية وغرس المبادئ. لقد خُوطب الشباب بلغة تراعي رهافة وجدانهم وقابلية عقولهم، لتحفيز الطاقات لا لإطفائها، وبناء الشخصية دون تعالٍ أو إلغاء. ومن أبلغ ما يُستشهد به في هذا الباب، وصية أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام: ”إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء قبلته“ «نهج البلاغة». وهو تعبيرٌ نافذ يعكس فهمًا عميقًا لطبيعة النشء، ويُبرز الحاجة إلى ملء الفراغ الفكري والروحي قبل أن تملأه المؤثرات الطارئة.

ويزداد هذا المعنى عمقًا في قول الإمام جعفر الصادق : ”ليُعد أحدكم نفسه لأن يكون ممن يُؤخذ عنه العلم، ويُقتدى به في العمل“ «وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 27، ص 47». هي دعوة صريحة لتحمّل الأدوار الريادية، لا من باب التميز الذاتي فقط، بل بدافع المسؤولية الجماعية، حيث يُنتظر من كل جيل أن يكون له سهمًا في البناء، وصوتًا في التوجيه، وأثرًا في من يأتي بعده. فمن يُهيئ نفسه ليكون قدوة، لا يكتفي بحفظ التجربة من النسيان، بل يبعث فيها حياة جديدة في نفوس الآخرين.

وقد عبّر الإمام علي عن أهمية أسلوب التوجيه بقوله: ”إن هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة“ «نهج البلاغة». فالفكر الشاب لا يتفاعل مع المواعظ الجامدة، ولا ينهل من التوجيهات المكررة، بل يحتاج إلى مدخل حي، وتجارب نابضة، تُقدّم في قوالب تمزج بين العقل والعاطفة، وتحرّك الوعي قبل أن تطرق السمع.

وأشارت دراسة حديثة نشرتها مجلة ”العلاقات بين الأجيال“، وهي مجلة علمية مرموقة تأسست عام 2003 م في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، وتُعنى بتوثيق التفاعلات بين الأجيال وتأثيرها على البناء الاجتماعي والنفسي، إلى أن المشاريع التي تجمع بين الطاقات الشابة والخبرة المتراكمة تحقق نتائج أعلى بنسبة تتجاوز 30%، بفضل الانسجام بين الحماسة المتدفقة والرؤية المتزنة. هذا التناغم يُفضي إلى قرارات أكثر نضجًا، واستجابة أكثر كفاءة للتحديات. ومع ذلك، لا يزال حاجز الصمت أو التردد يقف في طريق التكامل، فبعض كبار السن يواجهون شعورًا باطنيًا بأن زمانهم قد مضى، فيما يرى بعض الشباب أن السابقين أبناء مرحلة لم تعد تنتمي إلى سرعة العصر واحتياجاته. وهنا تبرز الحاجة إلى بناء جسر من التواضع والثقة المتبادلة، حيث يُقدّم أصحاب التجربة ما لديهم بروح الإرشاد لا الوصاية، ويتلقى الشباب هذه العطايا بعقلية الامتداد لا القطيعة. وعليه، فإن أي مشروع اجتماعي أو تطوعي لا يمكن أن يكتمل أو يستمر إلا إذا بُني على قاعدة ذهبية: ”من جرّب يُرشد، ومن بدأ يستمع، ومن رأى يُعلّم، ومن وُلد يتعلم“.

وقد عبّر النبي محمد ﷺ عن هذه القيمة الخالدة بقوله: ”رحم الله عبدًا سمع حكمة فوعاها، وبلغها من يسمعها“ «الأمالي للشيخ الصدوق، ص 290». فهي دعوة واضحة إلى شراكة معرفية قائمة على تداول الحكمة، وتوريث التجربة، وتوسيع الأثر الصالح من جيلٍ إلى جيل. ولعل التحدي الأخطر كوننا في زمن تتسارع فيه التغيرات، ليس في وفرة الإمكانات، ولا في قلة الطاقات، إنما في قدرتنا على تحقيق الموازنة بين أصالة التجربة وحداثة الرؤية، بين صوت الحكمة وشغف التجديد، بين من يعرف الطريق ومن يرغب في ركوبه. والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح على كل صانع قرار، وكل مربٍ وفاعل اجتماعي، هو: هل نمتلك الوعي الكافي لإقناع الجيلين بأن أحدهما لا يُلغي الآخر، بل يُكمله؟ وهل نملك الشجاعة لبناء الجسر المعرفي الذي يعبر بنا من الاجتهاد الفردي إلى الإنجاز الجمعي؟