آخر تحديث: 2 / 5 / 2025م - 8:16 م

هل الأدب شعبوي أم نخبوي

محمد الحرز * صحيفة اليوم

الأدب باعتباره نتاج القيم التي ترتبط بالإنسان وبثقافته وتاريخه على هذه الأرض هو سابق على هذا العنوان الذي به هذه المقالة. هذه التصانيف شعبي أو نخبوي جاءت لاحقا في سياق تشكل المعرفة الإنسانية.

فتاريخ تحولات الأدب في عمومه وفي جميع مسارات أشكاله من شعر وسرد وغناء ومسرح وحكايات شعبية وملاحم أسطورية لم تكن عند أغلب المصنفين والباحثين القدماء مثل هذا التصنيف المعياري الذي يعيشه الأدب في الثقافة المعاصرة.

لقد ارتبطت هذه التصانيف المعيارية منذ أواسط القرن التاسع عشر مع شيوع مصطلح الشعب الذي انتقل من الحقل السياسي والفكري إلى الحقل الأدبي وانتقل معه بعض دلالاته، وبالأخص ما يتصل منه بمفهوم البسيط والعفوي والسطحي والأغلب الساذج وسُمي تحته الأدب الشعبي، وبالضرورة استدعى ذلك بالمقابل نشوء أو ظهور مفهوم آخر هو الأدب النخبوي أو الأدب الرفيع والذي يحتوي على دلالات تتصل بالطبقة الاجتماعية التي تدعي لنفسها المعرفة والأدب والثقافة والعلم والتحضر والتقدم أي الطبقة المخملية التي لا ترى في عامة الناس سوى أناس وضيعين وهامشيين لا ينتجون أدبا بالمعنى العميق الذي يسعون إليه ويحاولون التأثير من خلاله.

طبعا حصر مفهوم الأدب بين هذين التصنيفيين المعياريين في الثقافة المعاصرة ظل مؤثرا زمنا لا بأس به على صورته عند أجيال عديدة في مختلف المجتمعات والثقافات العربية والعربية.

لكن نشوء الدراسات الثقافية الغربية مدعوما بالدراسات الأنثروبولوجية أعاد الاعتبار للأدب الشعبي المهمش ووضعه موضع القيمة الجديرة بالدراسة وتسليط الأضواء عليه يرفد هذا الجانب الدراسات الاستشراقية التي أعادت الاعتبار للجانب المهمش من الأدب العربي ووضعته موضع الاهتمام ولفتت النظر إليه، يكفي الإشارة إلى ألف ليلة وليلة ومقامات الحريري والوهراني وغيرها من أدب الحكايات الشعبية التي لم تحظ عند النقاد والدارسين القدماء بأهميتها بالنسبة للأدب العربي.

لكن ما يمكن استخلاصه من النظر في ارتباط الأدب عبر تاريخه بهذا الثنائي التصنيفي المعياري هو إن الأدب نفسه يتعالى على مثل هذه التصانيف، فهو بحكم المعبر الحقيقي عن انفعالات الإنسان وعواطفه وتحولاته الثقافية والاجتماعية والفكرية والدينية، يعتبر قيمة ذات شأن مهم بالنسبة للشريحة الاجتماعية التي تنتجه، بغض النظر عن التصورات التي يطلقها الآخر عنه، مهما كان هذا الآخر مختلفا عنه إيدولوجيا أو فكريا أو دينيا أو اجتماعيا، فالتاريخ يخبرنا أن الأدب دائري الحركة وتختلف حركته من مجتمع لآخر حسب الظرف المكاني والاجتماعي والثقافي والتاريخي، فما يطلق - على سبيل المثال - على الأدب الشعبي في تاريخ الأدبي العربي باعتباره أدبا مهمشا إزاء مركزية الشعر، أصبح في العصر الحديث هو الأكثر مركزية وأهمية إزاء الشعر، يكفي النظر إلى موقع القصة والرواية أو حتى الشعر الشعبي على مختلف لغاته عند المجتمعات العربية حتى تتأكد مقولة أن الأدب بالنهاية لا يخضع لقيمة ثابتة حتى نضعه بين مزدوجين ونقول هذا التصنيف أو ذاك.

وهذا الأمر يقودني إلى الاعتراف أن إصدار أي حكم قيمة على أي عمل أدبي وثيق الصلة بالمخيلة من العمق فهو خاضع لمؤثرات خارج موضوعة الأدب، وليس سؤال أدبية الأدب التي حكمت مسار النظرية الأدبية سوى الخوف من الارتهان لهذه المؤثرات. وهناك تعبير مجازي جميل يصب في هذا الإطار ينسب فيه القول إلى الشاعر صلاح ستيتيه حينما أشار بما معناه في معرض حديثه عن الشعر من وجهة نظر العالم كحياة وثقافة وتاريخ وطبيعة لا يمكن تصنيفه كشعر جيد أو غير جيد، نخبوي أو عامي، هناك الشعر حين يقطع مفازات مخيلة العالم يحتاج فيها إلى محطات استراحة من فرط محاولته اللحاق بالمخيلة، ففي هذه المحطات تحدث البلية للإذهان في لحظة تلقيه، لا أقل ولا أكثر.