آخر تحديث: 29 / 4 / 2025م - 12:05 م

كانت أثقل!!

الدكتور محمد المسعود

سأروي لكم هذه القصة كمدخل لما أنا بصدد الحديث عنه شاب في الأربعين من عمره من مدينة أصفهان وكان بوالده بارا رحيما يروي «.. نام والدي ولم يستيقظ كما اعتاد لصلاة فجره، وحين ناديته من قريب أدركتٌ أنه سلب منه القدرة على جوابي، وأن ما انصب في أذني من صوته لن يتكرر، فألقيت بنفسي على جسده الهزيل أضمه واقبل كل جزء من وجهه ويديه، وعنقه، حتى رٌفع من بين يدي كسر لا يُجبر، وحزن لا يرتفع عن قلبي.

كنت بجزم أعد نفسي من أولئك الذين اختصهم الله تعالى بشرف بر آبائهم، حيث ماتت أمي بعد ولادتها بي، وكنت بأبي بارا، مطيعا، ولم أكن عليه جبارا، ولا شقيا!.

ولكن بعد خمس سنوات كاملة من وفاته، رأيت في المنام كأني وملك يحاسبني بعد موتي ويقول لي سنرى فريضة «.. وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..»!.

فرأيت نفسي صبيا يجري في الاستجابة له، وجلوسي بين يديه في دكانه، وتقبيلي ليديه كلها حاضرة أمام عيني ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: آية 49] ومع كل موقف يزداد ثقل ميزاني، وتزداد سعادتي وفرحي، وسروري، حتى بلغتُ السابعة والعشرين من عمري فوضع دفترا لونه أزرق في الجهة المقابلة فرجحت كفته، وكان أثقل من بري بوالدي، فأفقت وأنا في كرب لا يعلمه إلا الله تعالى، وفي حزن عظيم!!.

أخبرتني زوجتي أن هذه سنة زواجي بها حين بلغت السابعة والعشرين! فرجعت إلى مكتبتي ودفاتري القديمة، فرأيت دفترا لونه كأنه أزرق كان فيه ديون وحساب تكاليف الزواج! وبخوف وذعر صرت أقرأ كل صفحة فيه بعناية وتركيز لمعرفة الصلة بينه وبين خسارتي لسنوات بري بأبي، فظهرت في الصفحة الثامنة منه هذه العبارة «وعند وفاة والدي سيكون لي بيته، ودكانه، وكامل الأثاث وأسدد كامل ديوني،».!! وإن هذا الكلام ذاته قلته فعلا لخطيبتي حين ذاك بحسن نية، ولكنه عن قصد.!!. وكأننا نتمنى ونستعجل موته لنرث أمواله كاملة!!.

إن هذه المعصية القلبية، هذا الإضمار الخبيث، هذه الأمنية الجشعة، وإن كان محلها القلب، إلا أنها كانت أثقل في وزرها وإثمها من كل بري به، وقيامي بحقه...!.

إن معصية القلب كانت أثقل...!

﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: آية 225] للقلب نصيبه من الذنوب، وله فعل في السيئات، ويحمل كالجوارح خطاياه، وهي أثقل في الميزان بين يدي الله تعالى!!

ربما لهذا السبب جعل الله تعالى طهارة القلب وسلامته شرطا ضروريا لا يمكن تجاوزه لدخول الجنة ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: آية 89].

الرياء... من خطايا القلب، وهو خطيئة تطيح بأربعين سنة من الصلوات الخاشعة، والصيام الشاق، والإنفاق المستدام!.

والغرور والتكبر، يجعل باطنك مدنس، ويبعد روحك عن رحمة الله! والنفاق من معاصي القلب، ولكنه من الثقل بحيث يرسب بحامله في الدرك الأسفل من النار. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء: آية 145].

أخبرنا الله تعالى أنه سينشر أمامنا خبايا أنفسنا...! وأن نوايانا المضمرة، والتي نسترها، ستكون ظاهرة معلنة، وإنها رافعة وخافضة، وإنها مقربة ومبعدة وإنها، تٌدنيك من رحمته، أو تقصيك عنها، وإن جوارحك حين تفعل الطهر يجب أن يحمل فعلها ذات طاهرة، وإن الأعمال مهما كانت خيرة تظل مفتقرة لقلب طاهر ونفس نقية ليقبله الله تعالى ويرضى عنه ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: آية 27]..

إن أخطر موعظة نعبرها مسرعين هي موعظة الله لنا..

أنه سيؤاخذنا بما في قلوبنا، من أفعالها، ومضمراتها وصفاتها، وفي حبها، وبغضها، وفي تعلقها، وإعراضها وبيقظتها وغفلتها، بل حتى بلينها بخشيته بذكره، أو بقسوتها بنسيانه، بإقبالها وإعراضها، بحضورها وغيبتها.

للقلب هنا فرائض كثيرة، وللقلب صفات متعددة، وهو فاعل مختار في فعله، ذات إرادة تنتقي ما تُريد، وتصطفي ما هو إلى صفاتها وطبعها أقرب!.

لعلي أشارككم القلق، لأننا، دائما ننسى فيما ننسى، ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: آية 225] يغيب عن وعينا أن لقلوبنا كسب تكتسبه، وفعل تفعله، وخبيئة تخبأها، ثم تُبتلى بها، وتٌحاسب عليها، وتُؤخذ بها!. ويغيب عنا دائما فيما يغيب.

أن ذنوب قلوبنا أثقل في موازين الأعمال.

وأن طهارة القلب شرط لازم ليتقبلنا الله تعالى ويزكينا، وينظر إلينا.

وإن للقرب علة واحدة، تسمى طهارة الباطن، وتسمى سلامة القلب.

قبل أن ينثال تسبيحك من على شفتيك، ناجي قلبك، واطلع على خباياه، قبل كل عمل، وبعده، فهي وحدها القادرة على أن تٌرديك، وهي وحدها القادرة على أن ترفعك.