مدرسة الحياة
حكمة رائعة مفادها أنه ”من لم يشرب من بحر التجربة، يمُت عطشًا في صحراء الحياة - فالحياة مدرسة أستاذها الزمن ودروسها التجارب“. ومنذُ أن هبط آدم إلى الأرض إلى يومنا هذا والحياة تزخر بما تقدمه من تجارب عملية وتعليمية آخذة في التوسع ومستمرةٌ ولا تكاد تتوقف أو تستكين. ربما تختلف طرق تلقي الدروس فيها بين منطقة وأخرى أو إقليم وآخر، إلا أنها عملية ديناميكية متنامية، يقتنصها من يمتلك روح المغامرة وشغف التعلم والتزود بكل ما يحدث في فصولها المتناثرة في كل زاوية من بقاع الأرض وأينما وجدت حياة. البعض يستغل وجوده في تلك البيئة التعليمية فينهل منها ما أمكنه، والبعض الآخر يمر في فلواتها مرور السحاب دون أن يُؤّثر أو يتأثر.
عمر الإنسان يمرُ سريعًا، إلا أنه في كل تكة ثانية يحياها له فيها درس وعبرة، إن كان له حضور يُسجّل له؛ لأن الكثير يعيشون الغفلة، وما أن ينتبهوا من غفلتهم حتى انتهى العمر لا سُقيا ولا ساقي. حياة الإنسان في مجمل حيثياتها، صغيرها وكبيرها، حلوها ومرها، هي دروسٌ لا تقدر بثمن.
ما ندفعه نحن من أثمان مقابل تعلمنا في مدرسة الحياة، يجب أن ندفعه عن طيب خاطر لأننا نعي ونتفهم أن لا شيء في هذه الحياة يأتي لنا على طبق من فضة دون أن يكون له تكلفة. والتكلفة هنا ليست بالضرورة مادية، فقد ندفعها على شكل معاناة، أو ظلم أو قهر. من الأهمية بمكان أن نعلم مسبقًا بأن الأحداث أو الأشخاص الأكثر إيلامًا ومعاناة لنا، هم في الواقع من يُقدمون تلك الدروس الأغلى قيمة وفائدة، والتي نحتاجها أكثر ونتعلم منها ما لا نتعلمه من غيرها من التجارب التي هي أقل وقعًا وإيذاءً.
لا تتذمر كثيرًا، فتذمُرك المتواصل من القوانين التي تحكم لعبة الحياة، وإن هي مُجحفة وظالمة، ما هو إلا تمهيدٌ لرفع رايتك البيضاء بالاستسلام وهذا ما لا يفعله من يمتلك روح الإقدام وينشد التعلم من كل تجربة هنا أو مهارة هناك وإن كانت التكاليف في نهايتها باهظة الثمن. تلك الأصوات التي تدعوك إلى التراخي والاستكانة وكأن الأمر لا يعنيك هي ذاتها التي تريد أن تراك في الدرك الأسفل من الهرم، خالي اليدين لا تقدر على شيء، فاحذرها ولا تعر لها انتباهًا. اجعل من كل دقيقة لك على هذه الأرض دقيقة تأمل في كل ما يجري حولك لتتمكن من تحصيل الكم الأكبر من التجارب والخبرات.
وأنت تخوض رحلتك التعليمية في مدرسة الحياة، لا تلتفت إلى الخلف فهناك الكثير الكثير الذي ينتظرك وأنت تجترئ خطواتك إلى الإمام. مادام الفضول ديدنك لاكتشاف ومعرفة المزيد فأنت إذن تتعلم وهذا هو الأهم. عدم ارتياحك لما تطلع عليه من خبايا ما يحدث لك وما يدور من حولك وأنت تعيش تفاصيل يومياتك، هو جزء لا يتجزأ من العملية التعليمية وعليك تقبلها بصدر رحب وروح رياضية. عليك أن تقتنع بأن تلك الأحداث لا تختلف البتة عن مقاطع القيل والقال التي تطرق أذنيك بين الحين والآخر، لكنك لا تمتلك إلا أن تتحكم في ذاتك وتتقبل كل ذلك الكم من الكدر والمعاناة، وأن تحتسبها على أنها ضريبة طبيعية تدفعها مقابل تلقيك لأحد الدروس الخصوصية الحياتية، أو على أنها مادة اختيارية مكملة للمنهج التعليمي الأساس.
الكل يذهب إلى المدارس لتلقي العلوم المختلفة والتدرب على مختلف المهارات التي تؤهلهم لكسب لقمة العيش التي لم تعد سهلة المنال. إلا أنه لا يخفى على الجميع أن هناك العديد من المهارات الاجتماعية الأخرى الفائقة الأهمية والتي يمكن أن يحصل عليها المرء خارج أسوار المدرسة. تلك المهارات والتجارب الحياتية التي نخوضها نحن والغير، والتي تصقلنا وتحولنا إلى لاعبين مهرة قادرين على خوض لعبة الحياة دون خوف أو وجل. تبقى تلك التجارب دون منازع، الجزئية الحرجة من المنهج العريض المتاح للجميع والذي يتسع ليشمل أدبيات الحياة المجتمعية وإن تنوعت أساليبها وألوانها.
مدرسة الحياة هي بيئة فريدة من نوعها، تُعْتمد دوراتها وتُسْتمد روح دروسها من واقع التجربة الحياتية اليومية. مدرسة الحياة وإن لم تختر أساتذتها بعناية، إلا أنها جامعةٌ جامعة لمختلف العناوين والتخصصات الاجتماعية والسلوكية التي يحتاجها الإنسان ليُمارس دوره الإنساني بكل كفاءة واقتدار. ونحن نمتلك كامل العضوية في هذه المؤسسة الحياتية التعليمية، نُعلِّم ونتعلم، يحذونا الأمل أن نكتشف دروب الحب التي تجمع القلوب ولا تشتتها، وتغذي العقول بما ينير الطريق لتستقطب همم البشرية على اختلاف ألسنتها وتوجهاتها الأيديولوجية، ولتبني حضارة ترتقي لأن يفخر بها الإنسان وهو المخلوق البشري المقدس، الذي أوحت إليه رسائل السماء أن يعمر الأًرض.
مدرسة الحياة حُبلى بما تكتنزه من خبرات ومهارات يجعلها تنفرد بخصوصية وسمات تعجز المدراس التقليدية في كل الأزمان أن تحتويها. دمتم سالمين