إشكالية فهمنا للآخر
فهمنا لأنفسنا ربما يساعدنا في قبول الذات وضبط النفس والمحافظة على قدر مقبول من العلاقات مع الآخر، إلا أن تعرفنا على أنفسنا هو الآخر مرهون بتلك العلاقات البينية. إذن نحن لا يمكننا تطوير طرف من المعادلة دون النظر إلى الطرف الآخر بنفس القدر والأهمية. إن فهمنا لذواتنا كثيرًا ما يحسّن من بصيرتنا ودوافعنا ووجهات نظرنا، ومع زيادة الوعي نكون أكثر سيطرة وأكثر تقبلا لأنفسنا والآخرين.
يعتقد الكثير من الباحثين في وقتنا الحاضر بأن الإنسان يتغير وبشكل كبير خلال مرحلة الطفولة والمراهقة ولكن سرعان ما يصل إلى مرحلة الثبات في سن البلوغ؛ مع ذلك يبدو أن الخصائص الأخرى من شخصيته هي أكثر عرضة للتغيير في المراحل الأخرى من حياته. من تلك الخصائص هناك الروح المعنوية أو المزاج، والاستقلالية وتأكيد الذات، والرضا عن الحياة، والعواطف وسلوك الفرد، كل ذلك قد يكون له التأثير الأكبر على النفس في مراحل أخرى من حياة الإنسان، وهذا كله له أثر متعاظم في فهمه للآخر.
لنذهب بعيدًا إلى ما وراء الجزئيات والصفات الشخصية لنكتشف أننا كبشر تتأثر شخصياتنا من خلال علاقاتنا مع أنفسنا والآخرين. اسأل نفسك ”هل أنا كإنسان بالغ أتخذ قرارات عقلانية أو أنني أتصرف من خلال ذلك الطفل الغاضب بداخلي والذي يملي علي ويسقط ما اختزنه من تجارب أوصلته لدرجة الخوف حتى بات يعتقد بأن معظم ما يحدث حوله هو مسلسل من المؤامرات التي تحاك في غير صالحه“. هذا المفهوم من شخصيتنا سوف يفتح لنا المجال للنظر في جميع أنواع احتياجاتنا وأحلامنا ودوافعنا، وأنها جميعًا تسكننا وتدفعنا إلى تلك المغامرة المثيرة والممتعة في نفس الوقت من اكتشاف ذواتنا.
على قدر ما تجمعنا بالآخرين من علاقات حميمة، إلا أن علاقتنا بأنفسنا قد تكون الأسوأ ببعدها الحسي والنفسي. فنحن عندما نتحدث عن احترام الذات فإننا في الواقع نتحدث عن ذلك الانعكاس الحقيقي لما تختلجه أنفسنا من تقدير لذواتنا ورسم تلك الصورة الواقعية التي تليق بنا وتشعرنا بذلك الحيّز اللائق الذي نتخذه لأنفسنا في المحيط الذي نعيش فيه.
البشر كائنات اجتماعية، والكثير من ردات الفعل لدينا، السلبية منها والإيجابية، تأتي من تفاعلنا مع الآخرين، لذلك يجب علينا كبشر التوقف والتفكير مليًا قبل تأسيس صداقات وعلاقات مع الآخرين. كما أن علينا بالطبع أن يكون تواصلنا مع الآخر فعّالًا، وأن لا نجعل من تلك العلاقات مجرد جسر يحقق لنا وقتًا ممتعًا بقدر ما هي ضرورة اجتماعية تصقل وتنمي قدرات التواصل الفعّال والتي يحتاجها كلا الطرفين.
تصنيفنا للآخرين وإصدار الأحكام الغير عادلة عليهم سلفًا، ما هي إلا تبيان لحقيقة عدم شعورنا بالأمان الداخلي. علينا أن نحسن النية بالآخرين وأن نأخذ بفرضية أن الطرف الآخر يبذل جُلّ ما لديه ليعطي تلك الصورة الصادقة عن نفسه. يجب أن تكون لدينا الدافعية القوية لمد جسور المحبة ودعمها بالتواصل لا أن نكبحها ونزرع الألغام لتفجيرها والقضاء عليها. تفهمنا للطريقة التي يفكر فيها الآخر وإعطاء أنفسنا الفرصة بأن نفهم توجهاته، يشعر الآخر بالثقة في أن تواصلنا صادق لا تشوبه خديعة أو مكيدة، وبعيدًا كل البعد عن الدجل والمكر والنفاق. التزامنا بهذه المعايير جدير بأن يوصلنا إلى تحقيق علاقة تتوفر فيها الشروط التي تخدم كلا الطرفين وتفوت الكثير من الفرص التي من شأنها إبقاءنا في حالة من التشرذم والوحدة.
إذن نحن أمام مسارين إما أن تكون لدينا استراتيجية واضحة لبناء علاقات حميدة من التواصل الإنساني المثمر، أو أن نسلك مسارًا طويلًا من التجربة والخطأ والخوض في المجهول لنكتشف ما هو مكتشف. دمتم سالمين.