آخر تحديث: 30 / 4 / 2025م - 12:54 ص

الإنسانية في أسمى تجلياتها

ياسين آل خليل

كنت في زيارة لمدينة مشهد الإيرانية العريقة بتاريخها والتي تحتضن مرقد الإمام علي بن موسى الرضا والتي ينشدها الملايين من عشاق ذلك الإمام ليحظوا بالسلام عليه والتبرك به عسى أن ينالهم شيئاً من بركاته وليتزودوا بالكثير من التهذيب الوجداني والطمأنينة والاستقرار الروحي.

وفي ذلك اليوم وبينما كنت في طريقي لزيارة المرقد الشريف لفت انتباهي مشهد لثلاثة من العسكريين التصق كل منهم بأحد اسطوانات الرواق المؤدي للصحن الشريف وهم ينتحبون ويجهشون بالبكاء وكأنهم في سباق لمن يذرف دمعاً أكثر.

تأثرت كثيراً لذلك المنظر ودمعت عيناي وأخذت أحدث نفسي وأقول «لا بد وأن يكون المصاب جلل، فعادة ما يكون الجندي صلباً رابط الجأش لا يهتز عاطفياً إلا لأمر مهيب، آجركم الله في مصابكم، يا ترى من ذا الذي فقدتم؟ فكل الأحبة هم عزيزون على النفس وفقدهم حرقة وجرح لا يكاد يندمل حتى يُعاد فتحه عند مشاهدة لأناس فقدوا عزيزاً لهم هنا، أو سماع لنحيب وبكاء لأم ودعت إبناً لها هناك». وكيف لي لا أشعر لمصابهم وأنا من فقدت إبناً لي في زهرة شبابه. ألم الفراق لا يعادله ألم وفراق الأحبة ربما هو أشد الآلام قسوة وأمضاها.

دفعني الفضول لأسأل عن مصابهم من خلال شخص أعرفه يجيد التحدث باللغتين العربية والفارسية فكان الرد كالآتي: «هؤلاء الجنود لم يفقدوا أُمّا لهم أو أب إلا أنهم كانوا في مهمة عسكرية أبعدتهم عن زيارة إمامهم لأكثر من عام وبعد انتهاء المهمة أخذهم العشق لهذا الإمام فأتوا لزيارته قبل أن يذهبوا لأهليهم، فما أن وصلوا إلى المدخل حتى انفجروا بالبكاء لشدة تعلقهم بذلك الإمام المظلوم وما كان ذلك المنظر الا غيضًا من فيض، فما أن تقترب من المقام حتى تلحظ وتسمع دويًا كدوي النحل لأناس فاضت قلوبهم بعواطف جياشة لآل البيت، لا يمكن لأي بشر حافظ ولو على الجزء اليسير من إنسانيته، إلا أن يخضع قلبه وتدمع عيناه.

مشاهدتي لمنظر كهذا أشعرني بأن الدنيا ما زالت بخير، ولو كان يشيبها الكثير من المفارقات. أحداث الأعوام القليلة الماضية أطلعتنا على الكثير مما لم نألف مشاهدته على مدى عمرنا المديد من قساوة القلوب التي عادت كالحجارة أو هي أقسى. فما تعرضه شاشات التلفزيون واليوتيوب من مناظر تقشعر لها الأبدان وترتجف لها القلوب من قتل وذبح وحرق، ما هي إلا ممارسات لأفراد خلعوا لباس الإنسانية واستبدلوه بلباس الغاب حيث التوحش هو السمة الطاغية ولا مكان للمشاعر والعواطف من سبيل.

مجتمعاتنا اليوم هي بحاجة ماسة إلى غسيل داخلي يزيل تلك التراكمات من الأحقاد والملوثات الفكرية التي عاثت تخريبًا بعقولنا وذواتنا حتى ابتعدنا عن فطرتنا الإنسانية فتحولنا إلى وحوش كاسرة تفتك بضحاياها نهارًا جهارا وتنام ليلها دون أن يرجف لها جفن أو يرق لها قلب. نحن بحاجة ماسة إلى أن نرجع إلى سابق عهدنا حيث كان الواحد منا يرق قلبه لذبح طير، ويشفق على الحيوان من حر السموم. كان الواحد منا تدمع عيناه لسماع قصة أو رؤية مشهد مؤلم لحادث عرضي. فأين هي مجتمعاتنا اليوم وكيف أصابها هذا الإنحطاط والإنحدار الأخلاقي الذي بات فيه الإنسان لا قيمة له في حياة أو ممات.

تلك الدقائق التي عشتها وشاهدتها بأم عيني لجنود غلبهم العشق فذرفوا تلك الدموع هي دون شك أصدق وأنبل تعبير لمعنى الإنسانية بتجلياتها الحقة. تلك الدموع لا يعرف قيمتها إلا من فاض قلبه بحب محمد وأهل بيته، أما من حرم نفسه من تلك الكرامات فقد آثر أن يعيش في ظلمة سرمدية بعيداً عن النور الإيماني والذي لا يضاهيه نور، فبه تشرق أرواحنا بأسمى معاني الإنسانية لتنشر خيوط أشعتها أنّا حلّت وترتقي بتقوى القلوب لتبعث الأمل في النفوس بأن القادم أفضل.