آخر تحديث: 30 / 4 / 2025م - 12:54 ص

حماقة الإشتغال بالقيل والقال

ياسين آل خليل

متى كانت آخر مرة ذكرت فيها أخاً لك أو صديق أو شخص ما في حديث تعتقد جازماً أنه كاره له؟ هل أنت مولع بتلك النوعية من الحديث وتكاد لا تفوتك فرصة دون أن تتطرق إلى أحد في غيابه؟ هل تتلذذ بتلك الأحاديث وتبذل جهداً كبيرًا في البحث عن المعلومة والتي تشعر بأنها ستكون الأكثر إثارة لمن يستمعون إليك والأكثر ضررًا للشخص الذي يقع عليه القيل والقال؟ هل أنت من تلك العينة من الناس الذين لا يمر عليهم يومًا دون أن يضعوا أحدًا ما على طاولة التشريح وينالون منه بقصد الإيذاء؟

على كثرة ما يتحدث الوعاظ من رجال دين وخطباء منبر وما يكتبه متخصصون اجتماعيون وأصحاب رأي عن خطورة تلك الثقافة البغيضة من القيل والقال وأنها من كبائر الذنوب، وكيف أنها تنسف ما يجمعه المرء من حسنات كما تفعل النار في الهشيم؛ إلا أن المتعظين هم قلّة بكل المقاييس. إذا كانت الغيبة عادة غير محببة، بل منبوذة عرفيًا ودينيًّا، فلماذا يتشبث بها الكثير من الناس وكأنها صك الغفران والوعد الإلهي الصادق المنقذ لهم من نار السَّعير والضامن لهم جنات النعيم! أمرٌ محير ويدعو للإستغراب.. أليس كذلك؟

سيدي وأنت يا سيدتي لا تنتابكما الحيرة ولا الإستغراب. مشاهداتكم لتصرفات الأفراد عن بعد تخلق لديكم انطباعًا بأنكم تعيشون في مجتمع ديّن يملؤه الحب والطيبة والتسامح؛ اقتربوا أكثر لتكتشفوا الحقيقة كما هي. ذلك التدين ولباس الوقار والتسابق للتزلف إلى رجال الدين والتقرب منهم ماهي إلا فبركة يراد منها خلق انطباع يجعل من ذلك المتصنع أيقونة يحسب لها المجتمع ألف حساب ويقدمه على أنه أحد القامات والأعمدة التي يُرتكز عليها في حفظ نسيج المجتمع من الإنفراط. لا أحد يذهب بعيدًا ليعتقد أني بحديثي هذا أعمم القول وأصوب أسهمي تجاه كل متدين؛ إلا أنه من المؤسف أن تكون هناك نسبة لا يستهان بها من محترفي ثقافة القيل والقال ممن يحسبون أنفسهم على تلك العينة من الناس.

ثقافة القيل والقال تطال جميع شرائح المجتمع وفئاته من إناث وذكور. والشعور بالملل وخلو الحياة من الإثارة والحاجة الملحة إلى شيئ يعيد لها بريقها، هو ما يدعوا الكثير من ضعاف النفوس للمس بالآخرين والتعرض لهم في خصوصياتهم وبطريقة بشعة تشمئز لها الأنفس. أما البعض الآخر فيلجؤون لتبني هذه الثقافة من باب التنفيس لما يجول في صدورهم من غل وكراهية للطرف الآخر نتيجة لوجود فوارق وميزات يتحلى بها هذا الطرف عن الآخر. هذه الفوارق ينجم عنها تحديات من الطرف الشاعر بالدونية مما يولد مشاكل تبدوا صغيرة في مبدئها إلا أنها تتطور مع الزمن وتكبر فيصعب على الطرفين حلها. هنا يلجأ حامل ثقافة القيل والقال لأن يتفنن في الإطاحة بخصمه حتى ولو كان النصر الذي ينتظره على حساب المبادئ والقيم الإنسانية.

قد لا تكون ثقافة القيل والقال شر كلها، إلا أن هناك قدر ليس باليسير من تلك الأقاويل التي تأخذ دورتها في تداول مشين لتتحول بعدها إلى مرض خبيث ينال ممن وقع عليه الظلم ويشوه صورته لدى المجتمع، وفي الكثير من الأحيان يحدث ذلك دون أن تصدر من هذا الإنسان إساءة ما لأحد ليستحق تلك الهجمة الهمجية والغير مبررة. الآضرار لا تقف عند ذلك الحد بل تأخذ دورتها الطبيعية لترتد على من أنشأها وساعد في انتشارها. ولأن ثقافة القيل والقال جرثومة فهي لا تميز بين أحد من ضحاياها بما فيهم المنشئ والمؤسس لتلك الثقافة. لكن قد يخرج عليك أحدهم ليقول لك أن الجميع يمارسون هذا النوع من الثرثرة عن شيئ أو شخص ما، وهذه طبيعة بشرية متأصلة في كل منا. والإجابة تتلخص في أنه ربما يكون هناك شيئ من الصحة في هذا الطرح، إلا أن هناك آثارًا سيئة للقيل والقال تتولد جراء نشر تلك الثرثرة والتي باتت متفشية في مجتمعنا والتي عادة ما تكون مبنية على الغيرة والحسد.

من الآثار الغير محسوبة لثقافة القيل والقال أن نفس الناس الذين كنت تتقاسم معهم تلك الثقافة يومًا ما، قد يمارسون نفس النهج معك شخصيًا وينشرون غسيلك عند أطراف وأماكن أخرى. هذا يوصلنا الى مفهوم شامل بأن ثقافة القيل والقال قد تنعكس سلبًا على من يمارسها ودون شك ستسبب له عزلة حتى وإن استمر البعض في التحدث إليه، لأن الآخرين وإن طال بهم الأمد إلا أنهم في النهاية سيشعرون بالإستياء ولو سرًا لمعرفتهم بأن من منحوه الثقة حينًا من الدهر بات ينهش في لحومهم كما كان يفعل بالآخرين.

تلك الآثار لا تقف عند ذلك الحد وكفى، بل تتجاوز أبعاد التصوُّر لتصل إلى فقد الثقة في حامل تلك الثقافة مما يجعل الآخرين من حوله يترددون في الحديث معه والبوح بأي معلومة وإن قلّت أهميتها خوفًا من أن يتلقفها ذلك الهاوي لثقافة القيل والقال فيحولها إلى مادة دسمة تجذب حولها الجديد من ضباع هذه الهواية ممن يهرولون لسماع أي جديد قد يضعهم في مقدمة الركب الذي له جمهوره وقواعده المنتشرة في المجالس ودواوين القيل والقال. فرسان هذه الهواية إن صحت تسميتهم لا يستخدمون ألأسلحة التقليدية التي باتت معروفة لدي الجميع، إلا أن ألسنتهم هي أمضى من السيف وأحر من الجمر حيث أنها تفتك بضحاياها أمرارًا عديدة دون حرج أو خجل وفي وضح النهار.

هل توجد هناك حماقة أسوأ من هذا التصرف البشع والأكثر بعدًا عن الإنسانية بتخطيه كل مبادئ الألفة والرحمة لينهش في لحوم أبناء جنسه دون وضع اعتبار لوازع ديني أو رادع قِيَمي؟ ألا يتفكر هؤلاء البشر في كتاب الله الذي هو كتابهم المنزل على نبيهم نبي الرحمة عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم؟ ألم يقرؤوا هذه الآية..! ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ.